رقابة محكمة النقض على تطبيق القانون الأجنبي و تفسيره

 ماذا لو أخطأ القاضي في إعمال القانون الأجنبي الذي أشارت بتطبيقه قاعدة الإسناد الوطنية ، بأن أسس حكمه على قاعدة غير نافذة في النظام القانوني الأجنبي ، أو على ترجمة غير دقيقة ، أو على تفسير غير صحيح لأحكامه و قواعده ، و طُعن بالنقض لخطأ في تطبيق القانون الأجنبي أو تفسيره أو تأويله ، فهل يكون ذلك مقبولاً ؟ 
في أقدم أحكامها اتجهت محكمة النقض الفرنسية إلى عدم قبول الطعن أمامها لخطأ في تطبيق القانون الأجنبي أو تفسيره , أو حتى لعدم تطبيق القانون الأجنبي أصلاً و إهمال قاعدة التنازع . 
و قد لاقى هذا القضاء تأييداً كبيراً من الفقه استناداً لحجج عدة قانونية و عملية وفنية و منطقية : 


أـ قانونية : و هي أن محكمة النقض قد وجدت للحفاظ على وحدة القانون الفرنسي بتوجيه القضاء , و لا يدخل في مهمتها إصلاح التطبيق الخاطئ للقوانين الأجنبية . 


ب ـ عملية : مؤداها أنه من غير الممكن أن تسهر محكمة النقض الوطنية على وحدة تطبيق كل قوانين دول العالم وصحتها ، فضلاً عن أن القانون الأجنبي لا يعدو أن يكون واقعة , و بالتالي لا يجوز للخصوم التمسك بالوقائع لأول مرة أمام محكمة النقض . 


ج ـ فنية : مقتضاها أن بسط محكمة النقض رقابتها على صحة تطبيق و تفسير القوانين الأجنبية قد يؤدي إلى تعدد الطعون و ازدواجها ، و هو ما يحمل مغبة التعارض مع ما يسير عليه القضاء في تلك القوانين . 


د ـ منطقية : و مضمونها أنه طالما لا يتوجب على القاضي ، على الأقل في النظام القانوني الفرنسي ، البحث عن القانون الأجنبي من تلقاء نفسه ، فيكون من غير المنطقي إخضاعه لرقابة محكمة النقض . فالوظيفة الرقابية النظامية لمحكمة النقض لا تمارس إلا حينما يتقاعس القاضي عن النهوض بالتزاماته الرقابية . 
   
ولا شك أن الرأي القائل بإنكار رقابة محكمة النقض على إعمال القانون الأجنبي غير جدير بالتأييد , ذلك أنه يؤدي إلى إهدار قاعدة الإسناد الوطنية التي اختارته ليحكم النزاع . 
فكيف نعترف بالطابع القانوني للقانون الأجنبي و نعترف بإلزامية قاعدة الإسناد التي أشارت بتطبيقه . في الوقت الذي تطلق فيه يد القاضي ليخرق ذلك القانون و يطبقه على نحو خاطئ ، رغم أن الأمرين وجهان لعملة واحدة .
فالخطأ في إعمال قاعدة الإسناد لا يختلف عن الخطأ في إعمال القانون الأجنبي الذي أشارت باختصاصه . 
و من ناحية ثانية فقد اعترفت محكمة النقض الفرنسية لنفسها بالحق في رقابة الخطأ في تفسير العقود الدولية بحجة ضمان استقرار و وحدة النظام القانوني للعلاقات الناشئة عن تلك العقود ، هذا في حين أنها ترفض رقابة الخطأ في تفسير القانون الأجنبي ، عدا حالة المسخ .
ألا يقود ذات الاعتبار إلى تقرير رقابتها في هذا الفرض الأخير ؟ !
و لذلك يؤكد بعضهم ، أن محكمة النقض الفرنسية سوف تبسط رقابتها الكاملة على تطبيق أحكام القانون الأجنبي ، بعد موقفها الحديث من إلزام القاضي بتطبيق قاعدة الإسناد و البحث عن أحكام القانون الأجنبي من تلقاء نفسه في عام 1988 و 1992 .
كما أنه يمكن الرد على الحجج التي استند إليها منكرو الرقابة : 
فمن ناحية ، ليس صحيحاً الزعم بأن وظيفة محكمة النقض تنحصر في الحفاظ على وحدة القانون الوطني و السهر على صحة تطبيقه ، ذلك أن النص المقرر لسلطة محكمة النقض في رقابة الأحكام التي تنطوي على مخالفة للقانون أو خطأ في تطبيقه أو تأويله قد جاء عاماً و لفظة " قانون " وردت مطلقة ، و حملها على أنها تعني القانون الوطني من دون الأجنبي ، يعد تقييداً غير جائز لإرادة المشرع . 
و من جهة ثانية ، ليس من المستحيل أن تنهض محكمة النقض بالرقابة على صحة و سلامة تطبيق القانون الأجنبي نظراً لتقدم الدراسات القانونية المقارنة . 
و من ناحية ثالثة ، فإن رقابة محكمة النقض على تطبيق القوانين الأجنبية لا يحمل مغبة التعارض مع ما هي عليه الحال في دول تلك القوانين بما يمس هيبة تلك المحكمة .
بل على العكس فإن انعدام الرقابة يطلق يد محاكم أول درجة و محاكم الاستئناف في إعمال القانون الأجنبي و تفسيره كل على طريقتها ، و قد تنحرف به انحرافاً يخرجه عن مضمونه الحقيقي على نحو يمكن القول معه إنها لم تنحرف فقط بالقانون الأجنبي ، بل بقاعدة الإسناد و القانون الوطني ذاته . 
و أخيراً ، فإن الحجة الأخيرة تبدو داحضة في ظل الاتجاه المتزايد في القوانين المقارنة نحو إلزام القاضي الوطني ليس فقط بتطبيق قاعدة الإسناد الوطنية ، بل بالبحث عن أحكام القانون الأجنبي الذي ترشد إليه , و من تلقاء نفسه في الحالتين . 


و قد كرست الكثير من النظم القانونية المقارنة الرأي المؤكد لضرورة رقابة محكمة النقض على تطبيق القانون الأجنبي و تأويله ، كالقانون الإيطالي و اليوناني ، و هو الحل البديهي لدى التقنيات الدولية الخاصة الحديثة التي ألزمت القاضي الوطني بإعمال قاعدة الإسناد من تلقاء نفسه و بالتحري عن أحكام القانون الأجنبي واجب التطبيق من تلقاء نفسه كذلك . 
و لقد جرت محكمة النقض الفرنسية على رفض رقابتها على تفسير القانون الأجنبي ، باعتبار إن مسألة التفسير هي من إطلاقات قضاة الموضوع .
و هذا ما يتماشى مع مذهب المحكمة التقليدي في رفضها الرقابة على إعمال القانون الأجنبي بوجه عام . 
إلاّ أن تلك المحكمة قد أدركت مثالب موقفها فأجازت استثناءً حقيقياً ، مؤداه قبول الطعن أمامها في أحكام الموضوع التي تخطئ خطأ واضحاً في تفسير القانون الأجنبي و فهم أحكامه ، بما يؤدي إلى مسخ مضمونه و تشويه معناه الواضح و الدقيق . 
و هذه الرقابة على المسخ تفترض شروط عدة : 
ـ  أولها : جهل قاضي الموضوع بالتفسير السائد في دولة القانون الأجنبي . 
ـ  وثانيها : وضوح و جلاء نص القانون الأجنبي 
ـ و ثالثها : أن تكون القاعدة الأجنبية مكتوبة ، فإن كانت قاعدة قضائية أو عرفية ، فلا مجال للطعن على أساس المسخ . 
و فكرة الرقابة في حالة المسخ التي تمارسها محكمة النقض في مجال تفسير العقود عموماً ، أقرتها المحكمة بشأن تفسير القانون الأجنبي لأول مرة في حكمها بتاريخ 21 / 11 / 1961 ، 
و ما زالت تعتنقها في أحدث أحكامها حتى عام 1991 . 
أما في إيطاليا و النمسا و روسيا و مصر فتمارس المحكمة العليا رقابتها على تطبيق القانون الأجنبي و تفسيره .
وأما المغرب و الجزائر فتقتصر رقابة محكمة النقض على قوانين الأحوال الشخصية فقط.


موقف محكمة النقض السورية

جاء القانون السوري خالياً من نص يبين مركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني و يحدد كيفية إعماله . 
إلاّ أن محكمة النقض السورية استقرت في قراراتها على معاملته معاملة الوقائع . حيث جاء في قرار لها عام 1982 : 
" إن التثبت من القانون الأجنبي و تفسيره و تطبيقه هو من مسائل الواقع التي يسـتقل بها قاضي الموضوع , و لا رقابة لمحكمة النقض عليه في ذلك , فليس على القاضي أن يطبق القانون الأجنبي من تلقاء نفسه , بل يجب على الخصوم أنفسهم التمسك به و يقع عليهم عبء إثباته , شـأنه في ذلك شأن أية واقعة يدعيها أحد الخصوم و ينكرها الآخر , لأن قاعدة ( لا يعذر أحد في الجهل بالقانون ) هي قاعدة لا تنطبق إلا على القانون الوطني .
فليس في استطاعة القاضي الإلمام بكل القوانين الأجنبية حتى يطبقها من تلقاء نفسه .
كما أن وظيفة محكمة النقض هي تقرير القواعد الصحيحة في القانون الوطني و تثبيت القضاء الوطني بشأنها , و لا رقابة على تطبيق القوانين الأجنبية " . 
و ظاهرٌ من ذلك أن محكمة النقض السورية تعد القانون الأجنبي مجرد واقعة بما يترتب على ذلك من نتائج .
فهي قد منعت المحاكم الوطنية من تطبيق القانون الأجنبي من تلقاء نفسها , و علقت إعماله على طلب الخصوم . و قد عللت ذلك بعدم مقدرة القاضي بالإلمام بالقوانين الأجنبية كلها . 
و هنا يتساءل بعض الثقاة من الفقه السوري ، عما إذا كان يجوز للقاضي أن يطبق القانون الأجنبي من تلقاء نفسه إذا كان يعرفه معرفة أكيدة أو إذا كان قد سبق له أن أعمل أحكامه في دعوى سابقة ؟ 
و برأي هذا الفريق أن مفهوم المخالفة لقرار محكمة النقض يسمح له بذلك إذا كان عالماً به و 
مطلعاً عليه بصورة أكيدة . و لا يمكن اعتبار ذلك من قبيل الحكم بالمعارف الشخصية للقاضي لأن الأمر لا يتعلق بوقائع الدعوى , و إنما بمعارف عامة يمكن الوصول إليها بمختلف السبل . 
و لا شك أننا نؤيد هذا الفريق من الفقه في الحكم على موقف محكمة النقض السورية بأنه موقف مبالغ في تشدده تجاه مركز القانون الأجنبي . 
كذلك بالنسبة لمسألة إثبات القانون الأجنبي : فقد ألقت محكمتنا العليا بكامل العبء على الخصوم عندما قررت أن 
" لا وجه لتخطئة الحكم المطعون فيه إن هو رفض تطبيق القانون الأجنبي لعدم إبراز نصوصه ، لأن المحكمة غير ملزمة بتكليف الخصوم لتقديم أدلتهم على دفوعهم " . 
حيث لا يكفي لتطبيق القانون الأجنبي ، الذي أشارت قاعدة الإسناد الوطنية باختصاصه ، أن يطلب الخصوم أو أحدهم ذلك ، بل لا بد لمن يتمسك بتطبيق هذا القانون أن يثبت مضمونه بإبراز نصوصه للمحكمة ، و بذلك فإن المحكمة قد أعفت القاضي من أي جهد للكشف عن مضمونه بإبراز نصوصه للمحكمة . 
و بذلك فإن المحكمة قد أعفت القاضي من أي جهد للكشف عن مضمون القانون الأجنبي , و حتى من مجرد تكليف الخصوم تقديم أدلتهم عن القانون الذي يتمسكون بتطبيقه .
و كأن التزام القاضي بتطبيق القانون الأجنبي ، الذي أمرته بتطبيقه قاعدة الإسناد الوطنية ، لا يسري إلا إذا وجد نص هذا القانون في ملف الدعوى وبين يديه . 


و لا شك أن من واجب القاضي في مثل هذه الحالات أن يسعى للتعرف على أحكام القانون الأجنبي بالوسائل المتاحة له كلها في التعامل الدولي و بموجب الاتفاقيات ، كما من واجبه أن يُعمل معارفه الشخصية و لو لم يكن ملزماً بتطبيقه أصلاً ، لأنه لا يمكن ترك تحديد مضمون القواعد القانونية لمشيئة الأفراد ، كما لا مانع من لجوء الخصوم إلى شهادة الخبراء و المختصين في القانون الأجنبي ومؤلفات الفقهاء من أجل إثباته . 
و هكذا يستخلص من قرار محكمة النقض السورية المشار إليه أن القاضي الوطني يطبق قانونه عند تعذر الوصول إلى أحكام القانون الأجنبي ، كما أن المحكمة لم تعترف لنفسها بحق الرقابة على تطبيقه و تفسيره من قبل محاكم الموضوع . 
و هذا يترتب عليه عدم قبول الدفع بتطبيقه إذا أثير لأول مرة أمام محكمة النقض باعتباره من الوقائع التي تدخل في اختصاص محاكم الموضوع .
و لا شك أن هذا الموقف مبالغ فيه بالمقارنة مع الاتجاهات الفقهية و التشريعية و القضائية في مختلف الدول ، و لهذا فإننا نؤيد فريق من الفقه السوري بعدم إقراراها عليه .