يعتبر الموطن من الخصائص الهامة للشخصية القانونية , إذ أنه يتيح تحديد مقر الشخص ومكانه .
ويقصد بالموطن المقر القانوني للشخص فيما يتعلق بنشاطه القانوني وعلاقاته مع غيره من الأشخاص , بحيث يعتبر موجوداً فيه على الدوام ولو تغيب عنه بصفة مؤقتة .
وتبدو أهمية الموطن من الناحية القانونية في نواح متعددة :
A- فالمحكمة المختصة للنظر في دعاوى الحقوق الشخصية هي المحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه .
B- والتبليغات القانونية كالمذكرات والإنذارات وغيرها من الأوراق القضائية تبلغ في الأصل إلى الشخص المطلوب تبليغه في موطنه , فيعتبر عالم بها ولو لم يتم تسليمها إليه بالذات .
C- كما أن الوفاء بالالتزامات التي ليس محلها شيئاً معيناً بالذات يكون في المكان الذي يوجد فيه موطن المدين .
وينقسم الموطن إلى نوعين : موطن عام , وموطن خاص :
فالموطن العام يشمل كافة أمور الشخص , حيث يعتد به القانون بالنسبة إلى نشاط الشخص وعلاقاته بوجه عام .
أما الموطن الخاص فيقتصر على أعمال معينة , حيث يعتد به القانون بالنسبة إلى علاقات وأوجه نشاط معينة للشخص .
أولاً: الموطن العام:
الأصل أن الشخص هو الذي يحدد بإرادته المكان الذي يعطيه القانون صفة الموطن العام , غير أن المشرع قد يقوم بتحديد مكان معين كموطن عام لبعض الأشخاص فيكون هذا المكان بالنسبة إليهم موطنا قانونياً أو إلزامياً .
1 ـ تحديد الموطن العادي:
اختلفت الشرائع فيما بينها في كيفية تحديد الموطن تبعاً لاختلافها في تصويره , ونجد في فكرة الموطن تصويرين رئيسيين : تصوير واقعي , وتصوير حكمي :
أما التصوير الواقعي فيعتد بالواقع في تحديد الموطن , وهذا الواقع هو وجود إقامة فعلية مستقرة للشخص , فيتحدد الموطن بحسب هذا التصوير بالمكان الذي يقيم فيه الشخص إقامة معتادة مستقرة .
ويترتب على هذا التصوير الواقعي للموطن نتيجتان :
الأولى : هي إمكان انعدام الموطن للشخص , بحيث لا يكون له موطن إذا لم تكن له إقامة معتادة في مكان معين .
والثانية : هي إمكان تعدد الموطن للشخص إذا كان له أكثر من محل إقامة عادية مستقرة .
أما التصوير الحكمي فلا يعتد بالواقع , أي بالإقامة الفعلية للشخص , بل بالمكان الذي يوجد فيه المركز الرئيسي لأعمال الشخص ومصالحه , فيتحدد الموطن بهذا المكان ولو كان الشخص لا يقيم فيه عادة .
ويترتب على التصوير الحكمي نتيجتان :
الأولى : هي ضرورة وجود موطن لكل شخص , فلا يمكن بحسب هذا التصوير وجود شخص دون موطن .
والثانية : هي أن الشخص لا يكون له إلا موطن واحد , لأن مركز الأعمال الرئيسي لا يكون إلا واحداً .
و رغم ما يحققه التصوير الحكمي من فائدة ثبات الموطن , إذ أنه من النادر أن يتغير مركز الأعمال خلافاً لمحل الإقامة الذي قد يتغير باستمرار , فإن هذا التصوير ينطوي على افتراض مخالف للواقع ويؤدي إلى نتائج غير عملية .
لذلك فقد أخذ المشرع السوري بالتصوير الواقعي في تحديد الموطن , حيث نصت الفقرة الأولى من المادة 42 من القانون المدني السوري على أن :
" الموطن هو المكان الذي يقيم قيه الشخص عادة " .
ويتبين من هذا النص أن للموطن عنصرين , هما : الإقامة , والاستقرار :
ويقصد بالإقامة سكن الشخص في مكان ما .
أما الاستقرار فمعناه ألا تكون هذه الإقامة وقتية .
وعنصر الاستقرار هو الذي يميز الموطن من محل السكن الذي يوجد فيه الشخص بصفة غير مستقرة .
فمن يذهب إلى المصيف لمدة معينة , فإن مكان هذا المصيف لا يعتبر موطناً له مادامت إقامته فيه غير مصحوبة بالاستقرار .
و لا يقصد بالاستقرار استمرار الإقامة دون انقطاع, وإنما يقصد به استمرارها على وجه يتحقق معه وصف الاعتياد , ولو تخللتها غيبة وقتية متقاربة أو متباعدة .
وقد رتب المشرع السوري على هذا التصوير الواقعي نتائجه العملية , من إمكان تعدد الموطن , وإمكان وجود شخص بدون الموطن , حيث نصت الفقرة الثانية من المادة 42 من القانون المدني السوري على أنه :
" يجوز أن يكون للشخص في وقت واحد أكثر من موطن , كما يجوز ألا يكون له موطن ما ".
وعلى هذا إذا كان الشـــخص يقيم في مكانين مختلفين إقامة معتادة مستقرة , فإن كلاً منهما يعتبر موطناً عاماً له , كمن يقيم إقامة معتادة بعض العام في الريف , وبعضه الآخر في المدينة , أو كشـخص متزوج بأكثر من زوجة و يقيم مع كل منهن إقامة معتادة في مكان مختلف .
كذلك يتصور انعدام الموطن إذا لم يكن للشخص مكان إقامة معتادة مستقرة , وهذا ما يحدث بالنسبة للبدو الرحل .
2 ـ تحديد الموطن القانوني :
إذا كان الموطن - كما رأينا - يتحدد بمكان الإقامة المعتادة المستقرة , فإن الأصل فيه أن يكون اختيارياً أو إرادياً , لأن الشخص هو الذي يختار بإرادته مكان إقامته المعتاد .
غير أن الموطن العام ليس دائما اختياريا , فقد يقوم المشرع بتحديد المكان الذي يعتبر موطناً عاماً بالنسبة لبعض الأشخاص , فيكون هذا المكان بالنسبة إليهم موطناً قانونياً أو إلزامياً , وإن كانوا لا يقيمون في هذا المكان إقامة معتادة .
و الأشخاص الذين فرض عليهم القانون المدني السوري هذا الموطن العام القانوني أو الإلزامي هم :
A- الموظفون العامون .
B- والأشخاص الحائزون على كامل الأهلية الذين يشتغلون عند الغير ويقيمون معه .
C- والقاصرون ومن في حكمهم .
فبالنسبة للموظفين العامين تقرر الفقرة الثانية من المادة 43 من القانون المدني السوري أن موطن الموظفين العامين هو المكان الذي يمارسون فيه وظائفهم .
وبالنسبة للأشخاص الحائزين على كامل الأهلية الذين يشتغلون عند الغير ويقيمون معه , فقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 43 المشار إليها آنفاً على أن :
" الأشخاص الحائزون على كامل الأهلية الذين يخدمون أو يشتغلون عند الغير يعتبر موطنهم موطن من يستخدمهم إذا كانوا يقيمون معه في منزل واحد " .
ويتبين من هذا النص القانوني أن تحديد الموطن القانوني في هذه الحالة إنما يتوقف على إقامة المستخدم مع من يعمل عنده في منزل واحد , وبالتالي فان هذا النص ليست له فائدة كبيرة من الناحية العملية , لأنه يعتد في تحديد الموطن بمكان إقامة المستخدم , فإذا كان المستخدم يقيم في منزل من يستخدمه كان هذا المنزل موطناً له , وإذا كان يقيم في منزل مستقل كان هذا المنزل موطنه , وليس في ذلك إلا تطبيق للقاعدة العامة في تحديد الموطن العادي , فلا تبقى هناك حاجة أصلا لفرض موطن قانوني يستند إلى مكان الإقامة المعتادة .
أما بالنسبة للقاصرين ومن في حكمهم , فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 44 من القانون المدني السوري على أن : " موطن القاصر والمحجور عليه والمفقود والغائب هو موطن من ينوب عن هؤلاء قانونا " .
وعلى هذا :
فموطن القاصر هو موطن وليه أو وصيه .
وموطن المحجور عليه بسبب عارض من عوارض الأهلية هو موطن القيم عليه .
وموطن المفقود أو الغائب هو موطن وكيله .
وهذا الموطن القانوني هو موطن حكمي , لأنه لا يتحدد بمحل الإقامة المعتادة للقاصر أو المحجور عليه أو المفقود أو الغائب وإنما يتحدد بمكان الإقامة المعتادة لنائبهم الشرعي من ولي أو وصي أو قيم أو وكيل قضائي .
والحكمة من تحديد هذا الموطن للقاصرين ومن في حكمهم أنهم لا يباشرون شؤونهم وتصرفاتهم بأنفسهم , وإنما يباشرها من ينوب عنهم قانوناً , فيكون من مصلحتهم الاعتداد بموطن هذا النائب في كل ما يخصهم .
غير أن الفقرة الثانية من المادة 44 المشار إليها آنفاً أوردت استثناء يتعلق بالقاصر الذي بلغ خمس عشرة سنة ومن في حكمه , حيث اعتبرت أن له موطناً خاصاً بالنسبة للأعمال والتصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لمباشرتها .
وعلى هذا فان موطن ناقصي الأهلية لا يتحدد بموطن نائبهم الشرعي إلا بالنسبة للتصرفات التي لا يجوز لهم مباشرتها بأنفسهم , أما بالنسبة للتصرفات التي أجاز لهم القانون مباشرتها بأنفسهم فيكون لهم في شأنها موطن خاص يتحدد في الأصل بمحل إقامتهم المعتادة .
ثانياً: الموطن الخاص:
قد يكون للشخص إلى جانب موطنه العام موطن خاص يعتد به بالنسبة إلى أعمال أو معاملات معينة على وجه التخصيص , وذلك بقصد التيسير على هذا الشخص أو على المتعاملين معه في هذه الأعمال أو المعاملات .
والموطن الخاص قد يحدده القانونوهي الحال بالنسبة إلى موطن الأعمال , وقد يحدده الشخص بإرادته , وهي الحال بالنسبة إلى الموطن المختار .
أ ) ـ موطن الأعمال ( الموطن التجاري أو الحرفي ) :
نصت المادة 43 من القانون المدني السوري في فقرتها الأولى على أنه :
" يعتبر المكان الذي يباشر فيه الشخص تجارة أو حرفة موطناً بالنسبة إلى إدارة الأعمال المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة " .
وعلى هذا فالتجار والصناع وأصحاب الحرف أو المهن يكون لهم بالإضافة إلى موطنهم العادي العام الذي يتحدد بمكان إقامتهم المعتادة موطن خاص في المكان الذي يباشرون فيه تجارتهم أو حرفتهم بالنسبة إلى إدارة الأعمال المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة :
فلا يعتد بهذا الموطن الخاص إلا بالنسبة إلى أعمال التجارة أو الصناعة أو الحرفة التي يباشرها الشخص .
أما فيما يتعلق بأعماله وشؤونه الأخرى فلا يعتد بهذا الموطن الخاص , وإنما يعتد بموطنه العام , أي محل إقامته المعتادة .
ب ) ـ الموطن المختار:
الموطن المختار هو المكان الذي يختاره الشـخص بإرادته لتنفيذ عمل أو تصرف قانوني معين . وقد نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 45 من القانون المدني السوري بقولها :
" يجوز اتخاذ موطن مختار لتنفيذ عمل قانوني معين " .
وتبدو أهمية الموطن المختار في تسهيل الإجراءات والمعاملات القانونية , فقد يبرم شخصان عقداً بينهما ويخشى أحدهما أن يضطر فيما إذا ثار نزاع فيما بعد بصدد تنفيذ ذلك العقد إلى مقاضاة المتعاقد الآخر أمام محكمة موطنه الأصلي أو توجيه التبليغات إليه في هذا الموطن , فيحتاط للأمر بأن يتفق معه حين التعاقد على اتخاذ موطن مختار بالنسبة لهذا العقد يمكن إجراء التبليغات فيه أو إقامة الدعاوى أمام محاكمه .
وقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 45 المشار إليها على أن الموطن المختار لتنفيذ عمل قانوني يكون هو الموطن بالنسبة إلى كل ما يتعلق بهذا العمل بما في ذلك إجراءات التنفيذ الجبري , إلا إذا اشترط صراحة قصر هذا الموطن على أعمال دون أخرى .
ويلاحظ أن الدعاوى المتعلقة بالعمل القانوني الذي اختير لأجله الموطن المختار :
يمكن أن تقام أمام محاكم الموطن المختار , كما يمكن أن تقام أمام الموطن الأصلي للمدعى عليه , باعتبار أنها هي المختصة أصلا بالنظر فيها , إلا إذا تبين أن اتخاذ الموطن المختار كان يقصد منه حصر اختصاص النظر في هذه الدعاوى بمحاكم الموطن المختار دون محاكم موطن المدعى عليه .
كما أن تبليغ الأوراق القضائية المتعلقة بهذا العمل القانوني يمكن أن يجري في الموطن المختار بدلاً من الموطن الأصلي إذا تم اتخاذ مكتب أحد المحامين موطنا مختارا بالنسبة إلى كل ما يتعلق بتنفيذ عقد معين .
والموطن الذي يتم اختياره لتنفيذ عمل قانوني معين قد يكون هو الموطن الأصلي ذاته للمدين . وتتبدى فائدة هذا الاختيار في حال تغيير المدين لموطنه الأصلي حيث لا يكون الدائنمضطراً إلى ملاحقته في موطنه الجديد , وإنما يستطيع مقاضاته في موطنه السابق باعتباره موطناً مختاراً .
و الموطن المختار يبقى قائماً إلى أن يتم تنفيذ التصرف القانوني المتعلق به , فإذا مات الشخص الذي اختار الموطن قبل تنفيذ العمل انتقل الموطن المختار إلى ورثته شأنه في ذلك شأن العمل القانوني الذي ارتبط به . والموطن المختار يختلف في هذا عن الموطن العام الذي يزول بزوال صاحبه , فلا ينتقل إلى ورثته .
كذلك فان إصابة الشخص الذي اختار الموطن بعارض من عوارض الأهلية لا تؤدي إلى انقضاء الموطن المختار , فيبقى هذا الموطن قائما ما دام لم ينتهِ تنفيذ التصرف القانوني المتعلق به . والموطن المختار يختلف في هذا عن الموطن العام الذي يزول إذا طرأ على صاحبه عارض من عوارض الأهلية , ليحل محله موطن نائبه القانوني .
وضماناً لاستقرار المعاملات , وحسماً لكل خلاف حول تحديد الموطن المختار , فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 45 من القانون المدني السوري على أنه :
" لا يجوز إثبات وجود الموطن المختار إلا بالكتابة " .
|