تفسير القانون وأنواع تفسير القانون


تفسير القاعدة القانونية :

هو الكشف عن مضمون القاعدة القانونية بهدف استنباط الحكم القانوني الذي تشمل عليه ليصار إلى تطبيقه على الوقائع التي تخضع لهذا الحكم تطبيقاً صحيحاً .
أو كما عرفه بعض رجال القانون: بأنه عملية عقلية علمية تستهدف الكشف عن المصلحة التي تحميها إرادة المشروع للحكم في الحالات الواقعية .
فمثلاً : المادة /621/ من قانون العقوبات السوري تقضي بأن : " السرقة هي أخذ مال الغير المنقول دون رضاه " .


فلكي نطبق هذه القاعدة يجب أن نعرف ما هو المنقول ؟ ومتى يعتبر المنقول مملوكاً للغير ؟ .
بالإجابة على هذه الأسئلة يفهم مضمون القاعدة وتتحدد عناصر انطباقها , فإذا توافرت هذه العناصر في حالة واقعية بأن أخذ شخص فعلاً منقولاً مملوكاً للغير دون رضاه  انطبقت عليه القاعدة يعتبر سارقاً ويستحق    الجزاء .
ونحن بالتعريف السابق نفترض أن القاعدة القانونية موجودة وأنها واضحة كاملة . 


ولكن قد يحصل أن تكون القاعدة القانونية غامضة أو ناقصة أو متعارضة مع قاعدة قانونية , أو تكون الحالة المعروضة لم يرد عليها نص مباشر .
هذه الحالات اجمع الفقهاء على إدخالها أيضاً في نطاق التفسير وبذلك يتسع معناه ليشمل إيضاح القاعدة القانونية الغامضة , أو تكملة النقص فيها , أو إزالة التعارض بينها وبين غيرها من القواعد أو استنباط الحكم في الحالة التي لم يرد بشأنها نص .
ويلاحظ أنَّ التَّفسير لا يقتصر على القواعد القانونية التي مصدرها التشريع , بل هو لازم في كافة القواعد القانونية أياً كان مصدرها .
فالقواعد القانونية التي مصدرها العرف أو الدين تحتاج هي الأخرى إلى التفسير سواء كانت غامضة أم ناقصة . 


غير أن الفقهاء اعتادوا معالجة التفسير بمناسبة القاعدة القانونية التشريعية بصفة خاصة لسببين عمليين هما :
1- أن أغلب القواعد القانونية التشريعية مصدرها التشريع في العصر الحاضر.
2- وان أساليب التفسير أكثر انطباقاً على القواعد التشريعية من غيرها .
إذاً : يمكن القول إن الحاجة إلى التفسير توجد بمناسبة تطبيق أي قاعدة قانونية أياً كان مصدرها . وإن كان المجال الغالب هو التشريع .

 


 أنواع التفسير 


أولاً ـ التفسير التشريعي :

يتدخل أحياناً المشرِّع لتفسير قاعدة غامضة بطريق التشريع فيسن تشريعاً يفسِّر به تشريعاً سابقاً اتَّضح اشتماله على غموض أو لبس .
فالتفسير التشريعي : هو التفسير الذي يصدر عن المشرع نفسه ليوضح به حقيقة ما قصده من تشريع سابق , ثار الخلاف بين الحاكم حول تفسيره أو طبَّقته المحاكم بما يخالف قصد المشرع .
ويبدو أمراً طبيعياً أن المشرع الذي أصدر النص الأصلي هو صاحب السلطة في تفسيره وهو أقدر من غيره على ذلك .
ولعلَّ التفسير التشريعي يستند في أساسه إلى مبدأ الفصل في السلطات الذي يوجب بأن تتولى كل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية القيام بالوظيفة التي تختص بها , دون أن تتجاوز في ذلك إلى سلطة أخرى .
فالقضاة تنحصر مهمتهم بالفصل في المنازعات التي تعرض أمامهم فإذا ما وجدوا غموضاً ما , في نصوص التشريع فعليهم الرجوع إلى المشرِّع نفسه الذي أصدره هذه النصوص ليصار إلى تفسيرها .
ويرى فرانسوا جيني أنَّ التَّفسير التَّشريعي يستند إلى الاعتقاد بكمال التشريع وكفايته لحسم المنازعات , بحيث لا يوجد بجانبه مصدر آخر يمكن الرجوع إليه , بل يرجع إليه وحده , ولو اقتضى الأمر , الرجوع في شرحه وتفسيره إلى السلطة التي أصدرته .
وقد احتلَّ التفسير التشريعي مكانة بارزة في العصور القديمة ولا سيما لدى الرومان .


فعلى سبيل المثال : بعد أن وضع الإمبراطور الروماني جوستنيان تقنياته الكبرى أعلن أنَّ تشريعاته كاملة , فلا يجوز للأفراد تفسيرها ويجب على القضاة تطبيقها بطريقة شبه آلية , واحتفظ لنفسه دون غيره بالحق في تفسير هذه التشريعات , ويذكر المؤرخون أيضاً أنه عندما نُشر أول شرح فقهي للقانون المدني الفرنسي , قال نابليون : " إن قانوني قد ضاع " .
وهو يقصد بذلك أن الشرح سينحرف بمعنى النصوص .


أمَّا اليوم فلا نرى وجوداً للتفسير التشريعي إلا في حالات نادرة نظراً لآليَّة عمل السلطة التشريعية البطيئة والمعقدة , إذ من غير المتصور أن تتصدى السلطة التشريعية لكل حالة يظهر فيها أن هناك غموضاً في نص من النصوص الصادرة عنها .
وإذا كان الأصل أن يصدر التفسير التشريعي عن السلطة ذاتها التي أصدرت التشريع الأصلي المراد تفسيره , إلا أنه من الجائز أن تخوِّل هذه السلطة هيئة أخرى هي على الأغلب إحدى هيئات السلطة التنفيذية في القيام بمهمة التفسير , نذكر على سبيل المثال المادة الخامسة من المرسوم التشريعي رقم /822/ لعام 1962 التي تنص على أن :  " يصدر وزير الشؤون الاجتماعية والعمل التعليمات اللازمة لتطبيق هذا المرسوم " .
والتفسير التشريعي جزء من التشريع الأصلي وليس بتشريع مستقل , لذلك لا يختلف عنه في الحكم والتطبيق , وعليه فإنه يطبق من تاريخ نفاذ التشريع المراد تفسيره وليس من تاريخ نفاذ التشريع التفسيري أي أنه لا ينطبق فقط على الوقائع التي تحدث من تاريخ نفاذه , بل يطبق أيضاً على الوقائع والعلاقات التي حصلت قبل ذلك بشرط ألا يكون قد تم الفصل فيها بصورة نهائية .
أي تمَّ الفصل بأحكام حازت حجية الأمر المقضي به وهي الأحكام التي استنفذت طرق الطعن .
ونرى أنَّه لا يدخل ضمن مفهوم التفسير التشريعي الذي نبحثه هنا قيام المشرِّع من خلال النص ذاته أو نص آخر من التشريع ذاته بتفسير بعض العبارات الواردة فيه والتي تحتاج لتفسير .


مثال : الفقرة الأولى من المادة /122/ المدني السوري التي تنص  على :   " يكون الغلط جوهرياً إذا بلغ حداً من الجسامة بحيث يمتنع معه المتعاقد عن إبرام العقد لو لم يقع في هذا الغلط " .
فهذه الفقرة جاءت تفسيراً لعبارة الغلط الجوهري الواردة في المادة /121/ مدني سوري التي تنص على أنه : " إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري جاوز له أن يطلب إبطال العقد إن كان المتعاقد الآخر قد وقع في الغلط , أو كان على علم به أو كان من السهل عليه أن يتبينه " . 


ومثله أيضاً ما ورد في الفقرة الثالثة من المادة /918/ مدني سوري حيث تنص على أن : " السبب الصحيح هو سند أو حادث يثبت حيازة العقار " .
فهذه الفقرة جاءت لتفسر المقصود بعبارة السبب الصحيح الواردة في الفقرة الأولى من المادة ذاتها .
باعتبار أن المقصود بالتفسير هو إيضاح للتشريع السابق وبيان لمضمونه ومعناه فيتوجب أن يلتزم المشرع حدود هذه الوظيفة التوضيحية بغير أن يتناول التشريع المراد تفسيره بالتعديل أو الإضافة .
أما إذا خرج التشريع التفسيري عن ضوابط التفسير بأن تضمن إضافة إلى التشريع المفسر فإن الأمر يقتضي التمييز بيمن حالتين :


الحالة الأولى : إذا كانت السلطة التشريعية نفسها هي التي أصدرت التفسير المتجاوز لنطاق التشريع المفسر .
عند ذلك فإن التشريع الجديد رغم وصف المشرع له بالتشريع التفسيري تكون له القوة التشريعية الملزمة , إلا أنه يسري من تاريخ نشره بأثر فوري ومباشر باعتباره تشريعاً جديداً وليس من تاريخ نفاذ التشريع المفسِّر , ما لم ينص صراحة على سريانه بأثر رجعي .
الحالة الثانية : إذا صدر التفسير من سلطة مفوضة بالتفسير وتضمن تجاوزاً:  فإنه لا يتمتع بالقوة الإلزامية للتشريع لأنه بمثابة اغتصاب لسلطة التشريع التي تملكها السلطة التشريعية بمقتضى أحكام الدستور النافذ .


ثانياً : التفسير القضائي :

يعتبر التفسير القضائي أكثر أنواع التفسير شيوعاً وأهمية من الوجهة العملية  فإذا كان كل من المشرع والفقيه يملك الحرية في التدخل لتفسير نص من النصوص التشريعية , فإن هذا التدخل يعد بمثابة التزام يقع على عاتق القاضي , إذ أنَّ امتناعه عن التفسير هو بمثابة امتناع عن تطبيق القانون .
فإذا كانت وظيفة القاضي تكمن في تطبيق القانون , فإنه لا يستطيع القيام بهذه الوظيفة قبل تفسيره , وهذا ما يفسر كون التفسير القضائي هو           الأكثر شيوعاً .
أما أهميته من الناحية العملية فتكمن في أن القاضي لا يضع قواعد لحالات وحوادث مفترضة بل يقوم بالنظر في نزاع معروض أمامه فعلاً , فيقوم بتمحيص ودراسة وتفسير الوقائع المادية المكوِّنة لهذا النزاع لكي يضفي عليها الوصف القانوني المناسب ,ومن ثم يطبق الحل الذي وضعه المشرع . وهنا ينصَب اهتمام القاضي لكي يصل إلى النتائج المتوافقة مع العدالة والقانون على النزول من عموميّة القاعدة المجردة إلى خصوصية الحالة المحسوسة , وفي سبيل ذلك لا غنى عن اللجوء إلى عملية التفسير , وهي ليست غاية بحد ذاتها بل هي وسيلة للوصول إلى نتائج عادلة .

ويراعى أنَّ ما تتوصَّل إليه المحكمة من تفسيرات في ظل الأنظمة القانونية اللاتينية لا تكون ملزمة لها ولا لغيرها من المحاكم التي تليها في الدرجة ولو كان صادراً عن محكمة النقض .


وما يصدر عن المحكمة من تفسير تنحصر قوته الإلزامية فقط في النزاع المعروض عليها , عملاً بمبدأ حجية الأمر المقضي به .
إذ تستطيع المحاكم تبني تفسيراً مغايراً في قضايا مماثلة , لا بل تستطيع المحكمة ذاتها التي أصدرت التفسير الأول العدول عنه إلى تفسير آخر في واقعة أخرى , فيما إذا تبين لها بعد التدقيق والدراسة أن التفسير الأول تفسير معيب .
 لكن في هذه الحالة فإن التفسير الجديد يطبق على القضايا التي لم يتم الفصل فيها بصورة نهائية . 
أما القضايا التي سبق الفصل فيها نهائياً قبل تغيير التفسير فلا يعاد النظر  فيها .
,على عكس الحال في الأنظمة الانجلوسكسونية التي تأخذ بنظام السوابق القضائية حيث تلتزم المحاكم الدنيا بأحكام المحاكم العليا ومجلس اللوردات .

 

ثالثاً : التفسير الفقهي :

يقصد بالتفسير الفقهي : كل ما يقوم به أساتذة القانون والمحامون وغيرهم من ذوي الاختصاص من الفقهاء من إيضاح وبيان وتعليق على القواعد القانونية في مؤلفاتهم وكتبهم أو مقالاتهم وأبحاثهم أو محاضراتهم وندواتهم .
الفرق بين التفسير الفقهي والتفسير القضائي :
ومن هنا تغلب على التفسير الفقهي الصبغة النظريَّة بخلاف التفسير القضائي الذي – كما رأينا – يغلب عليه الطَّابع العملي لأنَّ الفقيه لا تعرض عليه حالات واقعيَّة يطلب منه الفصل فيها .
إلا أنه بالرغم من الطابع النظري للتفسير الفقهي , فقد أثر في كلا التفسيرين التشريعي والقضائي .


أثر التفسير الفقهي في التفسير القضائي والتشريعي : 

فالتفسير الفقهي يساهم في كثير من الأحيان في مساعدة القاضي على إيجاد الحكم القانوني المناسب للنزاع المعروض أمامه , ولا سيما من خلال عمله على رد الأحكام التفصيلية إلى أصولها العامة , وتنسيق المبادئ القانونية في نظريات , بحيث تُمَكِّن القاضي في نهاية المطاف من معرفة أحكام القانون بسهولة ويسر .
كما أن التفسير الفقهي يؤثر في المشرع سواء من خلال توجيه الانتقادات الموضوعية للقواعد القانونية الصادرة عنه , أو من خلال اقتراح الحلول للحالات التي ليس لها حكم قانوني في مصادر القانون المتعددة .
ولا بد من الإشارة إلى أن التفسير الفقهي لا يلتزم به القاضي ولا يستطيع أن يبني حكمه على رأي فقهي فقط مهما بلغ هذا الرأي من الإجماع والقوة , لكن يستطيع إيراده في حيثيات حكمه إلى جانب أسباب أخرى وردت في مصادر القانون .


رابعاً : التفسير الإداري : 

يقصد به : مجموع البلاغات والتعليمات التي تصدرها الإدارات العامة المختصَّة إلى موظفيها لتفسر لهم فيها أحكام القانون وتبين لهم طرق   تطبيقها .
فالإدارات التي تلتزم بتطبيق أحكام القانون من خلال موظفيها , قد ترى ضرورة في كثير من الأحيان بأن تفسر لموظفيها كيفية تطبيق القانون وذلك من خلال بلاغات وتعليمات رسمية تصدرها .
هذه البلاغات والتعليمات لا تمتع بأية قوة إلزامية إلا بالنسبة للموظف الموجهة إليه . فهي لا تلزم المحاكم إلا إذا صدر التفسير الإداري عن جهة رسمية فوضها المشرع بتفسير أحد النصوص القانونية فيكون التفسير الصادر عن هذه الجهة بقوة التفسير التشريعي , تلتزم المحاكم به .