ينصرف اصطلاح القضاء إلى السـلطة العامة التي تتولى تطبيق القانون , أي السلطة القضائية , وتتمثل في مجموعة المحاكم الموجودة في الدولة والتي يوكل إليها مهمة تطبيق القانون .
كما ينصرف اصطلاح القضاء إلى مجموع الأحكام الصادرة عن المحاكم بصدد المنازعات المرفوعة إليها .
إلا أن المقصود بالاجتهاد القضائي كمصدر من مصادر القانون في مفهومه الحديث هو مجموع القواعد الموضوعية التي تستنبط من استقرار أحكام المحاكم على اتباعها في كافة القضايا التي تتولى أمر النظر فيها .
أي أن المحاكم تستقر أحكامها و يطرد رأيها على احترام قاعدة معينة , بحيث يتبع نفس الحل كلما توافرت شروط انطباق هذه القاعدة , و بذلك يتوافر للقاعدة التي جرى القضاء على احترامها ما تتميز به القاعدة القانونية من صفة العمومية والتجريد .
لقد كانت وما تزال مشكلة البحث في دور القضاء كمنشئ للقواعد القانونية بين المشكلات الأساسية لعلم القانون , حيث أصبح من التساؤلات المعروفة في كتب فلسفة القانون , ذلك التساؤل الذي يبدو للوهلة الأولى غاية في السهولة والبساطة , ألا وهو : هل يصنع القاضي القانون أم يقتصر دوره على تطبيقه ؟
في الواقع لم يكن من المتصور إثارة مسألة إنشاء القضاء للقواعد القانونية لو أن التشريع جاء كاملاً لا يشوبه النقص أو الغموض , فلو افترضنا كمال التشريع أو بعبارة قدرة التشريع على إيجاد القواعد اللازمة لحل المنازعات كافة , لما كان هناك مبرر لخلق قواعد قانونية جديدة بواسطة القضاء , بل يقتصر دور القضاء على مباشرة وظيفته الأصلية وهي النطق بالقواعد العامة لحل تلك المنازعات .
لكن الفكر القانوني أدرك منذ القديم أن التشريع لا يمكن أن يكون كاملاً , إذ يشوبه النقص حتماً , كنتيجة طبيعية للنقص الكامن في طبيعة الإنسان , فكل عمل إنساني يحتمل أن يكون مشوباً بالقصور , وما التشريع إلا عمل من أعمال الإنسان , إذ من الممكن في أية لحظة أن يعرض على القاضي نزاع لا تعالجه قاعدة موجودة .
في بداية الأمر كان الفقهاء يصرون على أن القاضي أبعد ما يكون عن مهمة التشريع , وأن أقصى ما يقوم به هو إزالة الغبار عن القوانين الموجودة و كشفها للعيان .
و تأكد هذا المسلك مع قيام الثورة الفرنسية , حيث أصر المنادون بالفصل بين السلطات على أن التشريع خالص لمثلي الأمة الذين يفرغون إرادتها في قواعد عامة , يقتصر على تطبيقها بصدد الحالات الفردية .
وفي غمرة حماسه لمبدأ الفصل في السلطات قال المفكر الفرنسي ( مونتسكيو) : " إن قضاة الوطن ليسوا سوى الفم الذي ينطق كلمات التشريع , وهم إزاء هذا التشريع كائنات لا حياة فيها ولا قوة لها على تخفيف قوته أو شدته " .
و قال ( روبسبير ) : " إن كلمة الاجتهاد القضائي يجب على أن تمحى من لغتنا , ففي دولة لها دستور و تشريع , الاجتهاد القضائي ليس سوى التشريع نفسه " .
كما يرى أصحاب الرأي المتمثل في أن دور القاضي يقتصر على تطبيق القانون لا خلق القانون بأن تفسير القواعد القانونية الموجودة في النصوص التشريعية كافٍ بحد ذاته لحل أي نزاع يعرض على القاضي , إذ يقومون بوضع قواعد علمية محددة للتفسير و يطلبون من القاضي إعمالها لمواجهة أي حالة جديدة....
ثم يذهب بعضهم إلى القول أنه : في حال عجزت كل قواعد التفسير عن تمكين القاضي من إيجاد الحل المناسب للنزاع المعروض أمامه , فثمة قاعدة أخيرة ترشده , وهي تلك التي تقتضي بأنه إذا لم يوجد أي تنظيم أو تقييد من جانب القانون فإن ما يفعله الفرد لا حرج فيه , أو بمعنى آخر تطبيق القاعدة القائلة بأن الأصل في الأشياء الإباحة .
و إذا كان الاجتهاد القضائي هو من المصادر التفسيرية للقانون وفقاً للاتجاه السائد اليوم في أغلب دول العالم , إلا أن هذا الاجتهاد كان له أثر منشئ للقواعد القانونية في القانون الروماني , كما أنه لا يزال يتمتع بأهمية خاصة كمصدر منشـئ للقواعد القانونية في نطاق القانون الانجليزي .
ـالاجتهاد القضائي في الحقوق الرومانية :
شهد المجتمع الروماني ـ شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات القديمة ـ عملية التطور من مجتمع زراعي إلى مجتمع تجاري , تحت تأثير مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية , حيث أصبح يشعر البريتور الروماني المسؤول عن تنظيم التقاضي وحماية التعامل بين الأفراد بأن قواعد القانون المدني لم تعد تكفي لوحدها للتصدي للفصل في المنازعات المستجدة بحكم التطور .
و من أجل ذلك اتجه البريتور الروماني إلى الاستعانة بأساليب جديدة تضفي على قواعد القانون المدني الضيقة والصارمة المرونة ومسحة من العدالة الإنسانية .
فقد حصل تطور كبير في شأن المنشور الذي كان يعلنه البريتور للناس عند توليه الحكم ويبين فيه برنامج عمله في سنة حكمه .
فحين أراد البريتور أن يطور القضاء مستعيناً بسلطته أخذ يعلن في منشوره عن الأساليب الجديدة التي تجعل من تطبيقه للقانون مكاناً يتسع للقضايا الجديدة , وإعطائها الحلول التي تؤمن للعدالة .
وقد كان البريتور يعتبر نفسه ملزماً بما يعلنه المنشور , ولهذا لم يكن يمس القواعد التي أعلنها خلال مدة قيامه بتولي سلطته .
وعندما يخلف البريتور الذي انتهت ولايته , بريتور آخر , فإنه يبقي الأفعال التي حماها سـلفه و يضيف إليها أفعالاً أخرى إذا رأى وجوب حمايتها , و هكذا يبقي كل بريتور ما قرره سلفه .
وعلى مر الزمن تستقر الأفعال المتكررة , وتصبح جزءاً ثابتاً في المنشور يتردد في المناشير المتعاقبة كل عام , ومن أجل ذلك أطلق على الجزء الثابت اصطلاح المنشور الدائم .
إذاً , هناك حركة دائمة بين الجزء الدائم من المنشور والجزء المستجد , تلك الحركة التي أضفت على الحياة القضائية نشاطاً واضحاً لجميع المسائل التي كانت تطرأ في مجتمع متطور , ومن أجل ذلك كانت مناشير البريتور مصدراً مهماً من مصادر القانون التي أضفت على قواعده الجامدة مرونةً استطاع بها أن يساير التطور المتسارع , وأن يكون الأساس المتين في بناء النظام القانوني الروماني .
نخلص مما تقدم إلى القول بأن القضاء في روما لعب كمصدر للقانون دوراً لا يقل أهمية عن التشريع والعرف , فلم يكن دور البريتور يقتصر على تطبيق القانون , بل يصنعه صنعاً عن طريق المنشورات القضائية .
ـ الاجتهاد في الشريعة الإسلامية :
يمكننا في هذا المجال أن نميز بين ثلاثة عهود :
1- العهد الأول : عهد النبي عليه الصلاة والسلام :
في هذا العهد كانت مصادر القانون تتمثل في كتاب الله وسنة رسوله , ولم يكن لغيرهما قيمة في إيجاد القواعد القانونية , ولاسيما أن المجتمع الإسلامي في هذا العهد كان يعيش حياة بسيطة لا يشغل أفراده سوى الدعوة إلى الإسلام و نشره , سواء داخل الجزيرة العربية , أو في المجتمعات المجاورة .
و كان المسلمون من الإيمان بحيث كانوا يسلمون بما كان يأتي على لسان رسول الله عليه الصلاة و السلام دون أي نقاش , على اعتبار أنه وحي من الله تعالى , لذا فإن الاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه اليوم لم يكن موجوداً .
2- العهد الثاني : عهد الخلفاء الراشدين :
شهد هذا العهد أحداثاً كبيرة مختلفة ـ سواء من حيث طبيعتها أو تعددها ـ عما شهده العهد الأول , إذ أن المسلمون في هذا العهد واجهوا وقائع وأحداثاً ومشاكل لم يعهدوها في عهد النبي عليه الصلاة والسلام , وبالتالي أضحى مـن الضروري الاســتعانة بالاجتهاد لإيجاد الحل الملائم لها .
ففي هذا العهد كان الصحابة إذا ما اعترضتهم مسألة و أرادوا بيان الحكم الشرعي لها لجؤوا إلى كتاب الله تعالى , فإن لم يجدوا لجؤوا إلى سنة رسول الله , أما إذا لم يجدوا حكماً لا في الكتاب ولا في السنة , فإنهم يلجؤون إلى إعمال العقل واجتهاد رأيهم .
لذلك في هذا العهد كان لكل من الفقه والقضاء أثر بارز في تكوين الشريعة الإسلامية , فامتزج القضاء مع الفقه , وأضحى كل منهما يماشي الآخر , حيث وجد القاضي الفقه , إذ كان من الصعب التمييز بين الفقيه والقاضي .
3- العهد الثالث : عهد الأئمة وتدوين الفقه الإسلامي :
وهو عهد الفقه والفقهاء أكثر من عهد القضاء والقضاة , إذ أن المسلمين في هذا العصر كانوا حريصين على أن يكون جميع ما يجرونه من تصرفات وأعمال دينية أو دنيوية متفقاً مع الشريعة الإسلامية , ولهذا كانوا يرجعون إلى الفقهاء يستفتونهم فيما يعرض لهم من منازعات .
و هذا الكلام ينسحب أيضاً على الولاة والقضاة .
و كانت هناك أسماء معروفة ومشهود لها بالعلم أمثال : أبي حنيفة وأصحابه , ومالك بن أنس وأصحابه , والشافعي وأصحابه , وأحمد بن حنبل وأصحابه , وغيرهم من الأئمة المجتهدين .
وما أحوجنا اليوم إلى الاجتهاد الشرعي الذي يمد التشريع الإسلامي بالأحكام المناسبة للوقائع والحوادث المستجدة , إذ أن هناك قضايا ومسائل عديدة تستدعي إيجاد حلول شرعية لها , ولا سبيل لذلك إلا من خلال الاجتهاد , بحيث يغدو كالنهر المتدفق الذي يغذي التشريع الإسلامي .
وضع الاجتهاد القضائي في الشرائع الحديثة
تقسم الشرائع في هذا الصدد إلى قسمين اثنين :
القسم الأول : يعتبر الاجتهاد القضائي مصدراً رسمياً من مصادر القانون :
وهي البلاد ذات النزعة الأنجلوسكسونية , كانكلترا والولايات المتحدة واستراليا , حيث يحتل القضاء مركزاً ممتازاً في نطاق القانون , إذ يعتبر مصدراً رسمياً للقواعد القانونية , له من القوة ما للتشريع تماماً .
فحكم القاضي يعتبر سابقة قضائية ملزمة له , لا يستطيع بعد ذلك أن يخالفها في الحالات المماثلة , وهو فضلاً عن ذلك , يلزم كل قاضٍٍ يأتي بعده في المرتبة .
و يلاحظ أنه في النظام الأنجلوسكسوني لا يشترط أن تستقر المحاكم في اتجاه معين , بل يكفي صدور حكم واحد من أية محكمة , لكي تصبح هذه المحكمة ملزمة باتباعه بعد ذلك , كما تلتزم به جميع المحاكم الأخرى التي تليها في الأهمية .
فالنظام القضائي الانجليزي أساسه السوابق القضائية , والقاضي الانجليزي إذا ما عرضت عليه قضية ما يبحث عن سابقة قضائية تطابق في ظروفها الدعوى المعروضة .
يتبين مما سبق , أن القاضي في ظل النظام الأنجلوسكسوني يصنع القانون , و أحكام القضاء مصدر رسمي للقواعد القانونية كالتشريع تماماً .
ـ القسم الثاني : لا يعتبر الاجتهاد القضائي مصدراً رسمياً من مصادر القانون :
أما بالنسبة لأغلب الدول , وخاصة منها الدول العربية وفرنسا ( الشرائع اللاتينية ) فإن الاجتهاد القضائي لا يعتبر مصدراً رسمياً للقانون , لأن الحكم الذي تصدره أية محكمة مهما علا شأنها ليس له من قوة إلزامية إلا في القضية التي صدر فيها , ومن الجائز من حيث المبدأ مخالفته في القضايا الأخرى المشابهة من قبل سائر المحاكم , بل ومن المحكمة نفسها التي أصدرته .
ففي فرنسا مثلاً , حرص المشرع على أن يؤكد بنص خاص , هو نص المادة الخامسة من القانون المدني الفرنسي : أنه يحظر على القضاة أن يصدروا في القضايا التي تعرض عليهم قرارات تتضمن أحكاماً عامة أو تنظيمية , أو بعبارة أخرى يحظر عليهم إصدار قواعد قانونية , لأن هذا من عمل المشرع و ليس للقاضي أن يكون مشرعاً .
وفي تشريعاتنا العربية تعمد المشرع أيضاً إغفال ذكر الاجتهاد القضائي بين المصادر الرسمية للقانون .
بل لقد كان مشروع القانون المدني المصري الذي هو أساس القانون المدني السوي يضم في مادته الأولى فقرة خاصة تنص على : " أن يستلهم القاضي خلال تطبيقه لمصادر القانون الرسمية الأحكام التي أقرها القضاء والفقه مصرياً كان أم أجنبياً " .
ولكن هذه الفقرة حذفت بعد ذلك من النص النهائي للقانون , خشية أن تتخذ منها محكمة النقض سبباً لنقض كل حكم يخالف أحكامها , وبذلك يقيد القاضي بهذه الأحكام , وهذا لا يجوز خشية أن تعتبر محكمة النقض أحكامها بمثابة قواعد قانونية يتوجب على المحاكم الأدنى منها اتباعها .
لذلك جاءت المادة الأولى من القانون المدني المصري مقتصرة في تعدادها لمصادر القانون على النص التشريعي والعرف والشريعة الإسلامية ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة .
إذاً : يمكن القول إن نظام السوابق القضائية المعمول به في الشريعة الإنكليزية ليس سوى وسيلة للاستئناس ولا يستند إلى أي أساس إلزامي في الشرائع اللاتينية والشرائع التي نبتت مذهبها , لكي لا يجعلوا من أحكام القضاء تشريعاً عاماً وقانوناً ملزماً , احتراماً لمبدأ فصل السلطات .
و في بلادنا تعرض المنازعات على القضاء , و يكون القاضي المدني ملزماً بالفصل فيها , فيبحث عن الحل في المصادر الرسمية المذكورة على سبيل الحصر لا المثال في المادة الأولى من القانون المدني , وهي : التشريع ثم الشريعة الإسلامية ثم العرف ثم مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
و تكون أحكامه في المواضيع المعروضة أمامه منتهية إلى قواعد تطبيقيه للأحكام التي توجهها المصادر الرسمية , وهذه القواعد ليست في ذاتها – نظرياً – إلزامية للقضاء , وإنما هي في الأصل مقتصرة في إلزامها على المتخاصمين في الدعوى التي صدرت فيها .
إذاً : فالقضاء وفقاً لنظامنا القانوني لا يشرع , و ليس له أن يصدر قرارات مبدئية بقواعد موضوعية مجردة , فهو مجرد مصدر استئناسي وليس مصدراً رسمياً يخلق القواعد القانونية .
و يؤيد هذا المنطق القانوني الحجج التالية :
1- إن وظيفة القاضي هي تطبيق القانون , وتنحصر وظيفته في هذا الصدد بتفسير النصوص الغامضة ليدرك مرادها , أما خلق القانون فهو خارج وظيفته أصلاً .
2- إن مبدأ فصل السلطات يدعم قصر وظيفة القاضي على تطبيق القانون , وإلا لكان متجاوزاً على اختصاص السلطة التشريعية , لأن هذا المبدأ يفترض وجود جهاز متخصص في إنشاء القواعد القانونية العامة , وهو ما يطلق عليه لدينا مجلس الشعب .
فلا يجوز للسلطة القضائية بمقتضى هذا المبدأ أن تتدخل وتتجاوز في اختصاصها على اختصاص السلطة التشريعية , أو أن تعرقل عملها .
فمبدأ الفصل بين السـلطات يحقق أحد أهم سمات القاعدة القانونية ألا وهي العمومية والتجريد , وبالتالي تطبيق مبدأ سيادة القانون .
أما إذا حصل العكــس , أي في حال تعدي السلطة القضائية على اختصاص السلطة التشريعية , فستكون السلطة التي تطبق القانون هي ذاتها السلطة التي تنشئه , و ذلك قد يؤدي إلى المرونة , ولكنه سيؤدي حتماً إلى عدم الاستقرار في المعاملات , حيث لا يعرف مسبقاً الحكم الذي سيصدر في أي نزاع يثور في الحياة بين الناس , ولا يصبح المبدأ السائد هو مبدأ سيادة القانون , بل مبدأ القانون الحر .
3- حددت المادة الأولى من القانون المدني المصادر الرسمية الملزمة للقانون , ولم تذكر من بينها القضاء , وهذا ما يقطع بأن القضاء لا يعتبر مصدراً رسمياً لقانوننا , وبالتالي فهو غير قادر على صنع القواعد القانونية الملزمة .
فضلاً عن ذلك لكي يعتبر القضاء مصدراً رسمياً للقانون – حتى في الحدود التي يقول بها بعض الفقهاء أي عند عدم وجود قاعدة قانونية وضعية يمكن تطبيقها – ينبغي أن تتوافر للحلول التي يخلقها القضاء و يبتدعها صفة القواعد القانونية .
بمعنى أنه يجب أن تتوافر لهذه الحلول التي تستقر عليها أحكام القضاء صفة العموم والتجريد من ناحية , وصفة الإلزام من ناحية أخرى , فهل تتوفر حقيقة هاتان الصفتان في الاجتهاد القضائي ؟؟؟؟
إن صفة العموم والتجريد يصعب أو يستحيل توافرها في قاعدة يبتدعها القاضي بصدد منازعة بعينها , حيث أن مثل هذه القاعدة سوف تتأثر صياغتها بل وموضوعها بغير شك بدقائق المنازعة المطروحة , فتفقد بذلك صفة العمومية , ثم هي بعيدة عن علم الأطراف من قبل , إذْ أنها لم تنشأ وربما لم توجد قبل قيام النزاع .
أيضاً الصفة الثانية من صفات القاعدة القانونية ـ وهي صفة الإلزام ـ مفقودة في الاجتهاد القضائي . والقول بعكس ذلك , استناداً إلى أن وجود محكمة النقض كفيل بحمل بقية المحاكم على احترام ما تتبعه , أو تقره من حلول , إنما هو قول خاطئ يخلط بين قوة الإلزام الأدبي وقوة الإلزام القانوني لأحكام محكمة النقض .
فقضاء محكمة النقض في سوريا لا يتمتع بقوة إلزام قانوني , لا بالنسبة لما دونها من محاكم , ولا بالنسبة إليها نفسها .
أما ما ذهبت إليه الهيئة العامة في محكمة النقض في العديد من قراراتها والمتمثل في أن مخالفة قرارات الهيئة العامة إنما يشكل خطأ مهنياً جسيماً , وبالتالي تتحقق إحدى الحالات المنصوص عنها في المادة / 486 / أصول مدنية , فإنه لا يستند إلى أي أساس قانوني , لأن الهيئة العامة بذلك تكون قد جعلت من قراراتها قواعد قانونية ملزمة , وهذا غير جائز وفقاً لنظامنا القانوني .
و قد يرى البعض أن هناك حالات يكون فيها لقضاء محكمة النقص قوة إلزام قانوني إذا نص التشريع على ذلك .
ـ مثال : نص المادة / 262 / أصول مدنية القائل : " يتحتم على المحكمة التي تحال إليها الدعوى أن تتبع حكم محكمة النقض " .
هنا يجب أن يراعى أنه حتى في هاتين الحالتين فإن القضاء الملزم لمحكمة النقض فيما يبتدع من حلول لا يكون قاعدة قانونية بالمعنى الصحيح , لأنه قضاء خاص بنزاع معين لا يتعداه إلى غيره من المنازعات والخصومات المتماثلة الحاضرة والمستقبلية , فلا تتوافر له إذن صفة العموم ولا صفة التجريد .
ذلك أن ما يحتمه القانون وخاصة في ضوء المادة / 262 / أصول هو أن تتبع المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه في الأصل حكم محكمة النقض في المسألة القانونية التي فصلت فيها .
كما أن هناك العديد من القرارات الصادرة عن محكمة النقض تسمح للمحكمة التي أصدرت الحكم الأول المطعون فيه أن تدخل في بناء حكمها الجديد ما تراه مناسباً صالحاً لبنائه .
على أن المنطق النظري البحت وفقاً لنظامنا القانوني والأنظمة القانونية اللاتينية إذا كان قد جعل من القاضي عبداً للقانون عندما حال بينه وبين خلق قواعد عامة مجردة ملزمة تطبق على الجميع , كتلك التي يخلقها التشريع , فإن واقع الحياة القضائية العملية يحرر القاضي من هذا الرق النظري ويفسح المجال له لقيام بدور يختلف إلى حد كبير عن الدور الذي رسمته له المبادئ القانونية النظرية .
و سنرى أن تحرر القاضي من حكم القانون :
يبلغ تارة حد يصل إلى الحلول محل المشرع في الحالات التي لم يضع فيها حكماً , إما لأنه فات عليه تنظيمها عند وضع التشريع , وإما لأنها وجدت بعد ذلك الوقت .
ويصل تارة أخرى إلى حد إهدار نص القانون حينما يتجافى مع روح العدالة , وسبل القاضي في الوصول إلى ذلك أن يقول بغموض النص الظالم , وأنه في حاجة إلى التفسير للتعرف على مضمونه , وتحت شعار التفسير الجريء يصل القاضي إلى تحقيق العدالة ومسايرة الضرورات العملية .
مدى القوة الإلزامية للاجتهاد القضائي من الوجهة العملية
أثارت القوة الإلزامية التي يتمتع بها الاجتهاد القضائي اهتمام الفقهاء , فذهبوا في تعليل سببها ومنشئها مذاهب شتى , حتى أدى الأمر ببعضهم إلى إدماج الاجتهاد بمصدر آخر من مصادر القانون الرسمية واعتباره صورة جديدة منه .
فيرى البعض أن مصدر القوة الإلزامية للاجتهاد القضائي هو العرف :
وهو رأي غير سديد , ذلك أن شرائط العرف من حيث قدمه ومعرفة الناس به وعدم مخالفته لنصوص القانون لا تتوافر في هذه القواعد :
فهي من ناحية : كثيراً ما تستقر بسرعة يصعب معها القول بأن العرف قد بلغ حداً من القدم ترسخ معه في ضمير الجماعة .
وهي من ناحية أخرى : كثيراً ما تستقر على أمر دون أن يشيع خبر استقرارها فيما عدا بين القلة التي تقوم على رعاية القانون ,الأمر الذي ينتفي معه إمكان القول بنشوء عرف يسير الأفراد على نهجه ويشعرون بإلزاميته .
و فيما عدا ذلك , فإن العرف لا يلجأ إليه القاضي بمقتضى الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون المدني إلا إذا لم يجد نصاً في التشريع ( أو في الشريعة الإسلامية ) , وهذا يحتم على القاضي ألا يطبق عرفاً يعارض التشريع القائم , في حين أننا رأينا أن القضاء كثيراً ما يستقر على قواعد تعارضه .
فكيف يصح القول بعد ذلك أن العرف هو المصدر الملزم للقواعد التي يستقر عليها القضاء ما دامت شرائطه لا تتوافر فيها .
وذهب البعض إلى إرجاع مصدر القواعد القانونية التي يستقر عليها القضاء إلى مبادئ القانون الطبيعي و قواعد العدالة :
وهذا الرأي بدوره محل نقد , ذلك لأن القاضي لا يستطيع اللجوء إلى قواعد القانون الطبيعي ومبادئ العدالة إلا إذا سكت التشريع عن حكم النزاع , فإذا سمح القضاء لنفسه بأن يستقر على مخالفة لنص تشريعي , فكيف يمكن القول بعد ذلك بأن سند هذه القاعدة هو القانون الطبيعي وقواعد العدالة ؟!
وهناك من يرى أن الاجتهاد القضائي في حقيقته ليس سوى التطبيق العملي لمصادر القانون الرسمية , وإن قوته الإلزامية تكمن في قوة هذه المصادر التي يقوم بتطبيقها سواء تعلق الأمر بالنص التشريعي , أو العرف , أو الشريعة الإسلامية , أو مبادئ القانون الطبيعي و قواعد العدالة .
ننتهي مما تقدم إلى أن مصدر القواعد القانونية التي يستقر عليها القضاء , ليس التشريع ولا العرف ولا مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة , وإنما هو القضاء نفسه , ولذلك قيل بحق القضاء يصنع القانون , على أن هذه الصناعة هي صناعة واقعية عملية بحتة لا يعترف بها المنطق القانوني الدقيق , ذلك لأن هذا المنطق يجعل من القاضي كاشفاً للقانون يقتصر دوره على تطبيقه دون أن يمنحه سلطة الإنشاء .
و هذه الصناعة الواقعية تقوم على اعتبارات عملية واقعية عدة هي :
1- النزعة الطبيعية لدى القاضي , وكل شخص بأن يتبنى بالنسبة للحالات المتشابهة حلولاً واحدة .
2- وجود محكمة عليا هي عادة محكمة النقض , يعود إليها أمر تمحيص أحكام المحاكم ومراقبة مدى مطابقتها للأصول والقانون .
3- السلطة المستقلة التي يتمتع بها القضاء , وعدم خضوعه في اجتهاده لسلطة أخرى , فليس هنالك من يسنطيع رسمياً أن يصرف القضاء عن رأي معين سوى المشرع وحده حين يتدخل عن طريق التشريع الذي يسنه لتعديل أو إلغاء هذا الاجتهاد وفرض حكم آخر غير الحكم الذي يأخذ به .
حتى أن المشرع نفسه إذا ما اتضحت له سلامة اتجاه محكمة النقض لا يرى في غالب الأحوال داعياً لإصدار تشريع جديد , إذ أنه بتدخله لن يضيف شيئاً جديداً إلى قوة القواعد المتبعة , وهكذا تنشأ قواعد عامة مجردة لها من الناحية العملية قوة الإلزام , شأنها في ذلك شأن القواعد التشريعية أو العرفية , ومصدر هذه القواعد أحكام المحاكم , ولهذا جرى القول بأن القضاء يخلق القانون .
يمكن القول إن العطاء الذي يستطيع أن يقدمه القاضي للقانون يكاد لا يقل في أهميته واتساعه عما يقدمه المشرع نفسه , فكلما تطور المجتمع وظهرت فيه حاجات جديدة و أوضاع لم تكن موجودة من قبل , كلما اتضحت أهمية الدور الذي يضطلع به القاضي , فهو لا يستطيع أن يقف مكفوف الأيدي تجاه هذه القضايا , أو يمتنع عن البت فيها بحجة فقدان النص , لأن واجبه هو إحقاق الحق وحسم المنازعات بين الأفراد حتى تشيع الطمأنينة بينهم ويستتب الأمن والنظام .
فالقضاء ـ ولو أن بعضهم يماري في ذلك ـ هو مصدر من مصادر القانون أخذ بالتعاظم والنمو بقدر ما أصاب التشريع من الهرم وطول البقاء , وقد أقامت المحاكم شيئاً فشيئاً بناءً خاصاً من القواعد القانونية .
ـ ما نلاحظه في مجال العمل القضائي :
يلاحظ في مجال العمل القضائي أن القضاة ينشؤون القواعد القانونية , و ينكرون على أنفسهم ذلك , مدعين بصفة مستمرة أن ما يبتدعونه من حلول ليس إلا تفسـيراً لما أراده المشرع .
فلماذا لا نعترف بهذا الواقع , لما يترتب على هذا الاعتراف من فائدة عظيمة , إذ يمثل الخطوة الأولى في محاولة إعانة القاضي بوسائل فينة علمية في ابتداعه الحلول الجديدة بدلاً من مضاعفة الصعوبات أمامه بإمداده بعبارات غامضة , كاصطلاح القانون الطبيعي , هذه الوسائل الفنية تهدي القاضي في أداء هذا الدور الخطير , أي الدور الإنشائي للقواعد القانونية .
وهنا لا بد من الإشـارة إلى أن الشريعة الإسلامية سبق وأن اعترفت للقاضي بهذا الدور الهام , كما أن هناك العديد من فقهاء القانون المدني قد تنبهوا لأهمية دور القاضي في هذا الإطار بعد أن أنكروه عليه لفترة طويلة , بحيث ذهب بعضهم إلى القول بضرورة تزويد القاضي بالوسائل الكفيلة التي تيسر عليه القيام بهذه المهمة , وفي مقدمة هؤلاء الفقهاء الفقيه الفرنسي ( جيني ) في كتابه " طريقة تفسير مصادر القانون الوضعي الخاص " .
وإذا كنا قد اعتبرنا القضاء مصدراً من مصادر القانون , فإن هذا الاعتبار يجب ألا يفضي إلى تقديس القرار الفرد , فالقضاء لا يكتسب صفة المصدر إلا إذا توج بسلسلة طويلة ومستقرة من الأحكام .
كما أنه لا بد لنا من التأكيد على حقيقية ثابتة أخرى , وهي أن دور القاضي في الأصل هو تطبيق القانون , و يمتد في الاستثناء إلى إنشاء القواعد القانونية الجديدة .
وطالما أننا نقول " استثناء " , فإن علينا أن نحيط هذا الاستثناء بالضمانات الكافية التي تحول دون استخدامه بشكل لا يتفق مع الغايات التي أردناها من الاعتراف بهذا الدور الاستثنائي .
فالقاضي ابن عصره يعيش الواقع العملي المحسوس , وهو من جهة ثانية صاحب حس مرهف بمتطلبات العدالة , يقع عليه عبء مهمة الاكتشاف والتوجيه والتصويب . و يجب أن يصدر قراراته بناءً على اعتبارات موضوعية عامة , لا عن تفكير ذاتي خاص و دون تعنت .
فعليه أن يعزل نفسه عن أي تأثير شخصي يأتيه من خصائص النزاع , و أن يحاول ما أمكن أن يبني حكمه على اعتبارات موضوعية , أو كما قال الفقيه ( جيني ) في كتابه المشار إليه آنفاً أنه :
على القاضي أن يتبع بحثاً حراً علمياً , حراً لأنه لا يملى عليه من سلطة وضعية , وعلمياً لأنه يجد أسسه في العناصر الموضوعية التي يمكن التوصل إليها عن طريق العلم وحده .
|