المبحث الأول
محل جريمة إساءة الائتمان
" المال "
معظم الشروط التي يتطلبها القانون في محل جريمة إساءة الائتمان مشتركة بينها وبين جريمتي السرقة والاحتيال ، إذ أن محل جريمة إساءة الائتمان يجب أن يكون مالاً مادياً ومنقولاً ومملوكاً للغير .
فجريمة إساءة الائتمان – شأنها شأن السرقة والاحتيال – لا تقع إلا على مال ، ومفهوم المال فيها لا يختلف عن مفهومه في السرقة والاحتيال ، ويترتب على ذلك ، أنه إذا لم يكن محل إساءة الائتمان مالاً فلا تقوم هذه الجريمة ، ويشترط في المال عدة شروط ؛ فيجب أولاً أن يكون مادياً، ويترتب على اشتراط كون المال مادياً ، أن الأفكار والابتكارات والمنافع لا تصلح محلاً لإساءة الائتمان ، نظراً لتجردها من الطبيعة المادية ، فمن أؤتمن على سر أو اختراع أو اكتشاف ، فإفشاء أو قام ببيعه ، لا يسأل عن جريمة إساءة الائتمان ، ويجب ثانياً أن يكون المال منقولاً ، وقد عبرت عن ذلك المادة 656 بقولها " سند يتضمن تعهداً أو إبراء ، أو شيء منقول آخر ، "وقد عبرت المادة 657 عن المنقول بقولها " مبلغ من المال أو بأشياء أخرى من المثليات " ، وكل هذه الأشياء تعتبر من المنقولات بدون أدنى شك .
وليست العبرة في كون المال منقولاً بما يوصف من أوصاف في نظر القانون المدني ، إنما العبرة في كون المال منقولاً ، بما يوصف من أوصاف طبقاً لقانون العقوبات ، وقد قلنا أن مفهوم المنقول ، في هذا القانون ، أوسع بكثير من مفهوم المنقول في القانون المدني ، وبناءً على ذلك ، فإن جريمة إساءة الائتمان يمكن أن تقع على العقارات بالتخصيص ، كما يمكن أن تقع على جزء من عقار بطبيعته إذا كان العقار كله قد سلم إلى الجاني بموجب عقد من عقود الأمانة، كنزع حجر من الجدار ، أو استخراج معدن من الأرض .
ويجب ثالثاً أن يكون المال المنقول مملوكاً لغير الجاني ، لأن إساءة الائتمان من جرائم الاعتداء على الملكية ، وما دامت كذلك ، فلا يتصور وقوعها إلا على مال مملوك لغير الجاني ، فإذا كان المال مملوكاً للشخص ، فلا يتصور وقوعها إلا على مال مملوك لغير الجاني ، فإذا كان مملوكاً للشخص ، فلا يتصور وقوع جريمة إساءة الائتمان بحقه .
وكذلك لا تقوم الجريمة إذا كان المال غير مملوك لأحد ، ولكن لا يشترط لقيام الجريمة أن يكون المال كله غير مملوك للجاني ، إذ تقوم الجريمة بحق من يتولى إدارة مال مملوك للجاني وغيره على السواء إذا قام بتبديد جزء منه .
وإذا توافرت الشروط السابقة وهي كون المال مادياً ومنقولاً ومملوكاً للغير كله أو في جزء منه، فإنه يصلح محلاً لإساءة الائتمان ، لا فرق بعد ذلك أن تكون قيمته مادية أم معنوية كالرسائل والصور … الخ .
المبحث الثاني
سبق تسليم المال بناء على عقد من عقود الأمانة
أولاً- سبق تسليم المال :
حتى تتوافر جريمة إساءة الائتمان لا يكفي أن يكون موضوعها مالاً منقولاً مملوكاً للغير ، بل لا بد أن يكون المال قد سبق تسليمه للجاني ، أي أن يكون التسليم سابقاً على الفعل المادي المكون للجريمة ، فإذا لم يكن هناك تسليم سابق ، فلا تتحقق الجريمة ، ويترتب على ذلك أن الناشر الذي يذكر للمؤلف في الفاتورة عدداً من النسخ أقل مما طبعه فعلاً ، ليستولي على الفرق ، لا يعد مرتكباً لجريمة إساءة الائتمان ، لأنه ليس هناك تسليم سابق .
والتسليم قد يكون من المجني عليه إلى الجاني مباشرة ، وهو الصورة الغالية ، وقد يكون من غير المجني عليه ، فالوكيل يعتبر مسيئاً للائتمان ، إذا كتم الأموال التي تسلمها من الموكل نفسه، ويعتبر مسيئاً للائتمان كذلك ، إذا اختلس الأموال التي يتسلمها من العملاء لحساب الموكل، والتسليم قد يكون إلى الجاني نفسه – وهو الصورة الغالية – وقد يكون إلى شخص آخر ينوب عنه ، كوكيله أو تابعه … الخ ، ففي الحالتين يتحقق التسيلم ، وتتوافر جريمة إساءة الائتمان .
ولا يشترط لقيام التسليم ، أن يكون حقيقياً ، أي بالمداولة المادية يداً بيد ، إنما يمكن أن يكون التسليم اعتبارياً ، إذا كان الجاني حائزاً للشيء من قبل ، فمن بيع شيئاً منقولاً ، ويستبقيه لديه على سبيل الوديعة للمشتري ، يعتبر مسيئاً للائتمان إذا كتمه أو اختلسه .
ولكن حتى يعتد بالتسليم يجب أن يكون صادراً عن إرادة غير معيبة ، فإذا كانت الإرادة معيبة ، نتيجة لتدليس أو إكراه ، فلا تقوم جريمة إساءة الائتمان ، إنما يشكل الفعل في حالة التدليس جريمة احتيال ، وفي حالة الإكراه جريمة سرقة .
كذلك ، وحتى تقوم جريمة إساءة الائتمان ، يجب أن يكون التسليم قد نقل إلى الجاني الحيازة الناقصة أو المؤقتة ، وذلك لحفظ الشيء أو استعماله في أمر معين ، ثم رده بعد ذلك .
فلا تقوم جريمة إساءة الائتمان إذا كان التسليم قد تم بقصد نقل الحيازة الكاملة ، فمن يتسلم الشيء الذي اشتراه ، ويتصرف فيه قبل دفع الثمن ، بالإتلاف مثلاً ، لا يعد مسيئاً للائتمان ، ولا يعد مسيئاً للائتمان ، كذلك العامل الذي يقبض أجره مقدماً ، إذا لم يقدم بأداء العمل المكلف به ولم يرد الأجر ؛ ولا تقوم جريمة إساءة الائتمان ، إذا كان التسليم قد تم بقصد تمكين اليد العارضة ، إذ في هذه الحالة يشكل الاستيلاء على الشيء جريمة سرقة .
ثانياً- أن يكون التسليم قد تم بناء على عقد من عقود الأمانة :
القواعد العامة لعقود الائتمان :
إن سبق تسليم المال الناقل للحيازة المؤقتة ، لا يكفي لقيام جريمة إساءة الائتمان ، بل لا بد أن يكون التسليم قد تم بناء على أحد العقود التي حددتها المادة 656 والمادة 657 ، حيث تتطلب المادة 656 أن يكون المنقول قد تم تسليمه " على وجه الوديعة أو الوكالة أو الإجارة أو على سبيل العارية أو الرهن أو لإجراء عمل لقاء أجرة أو بدون أجرة " ، وتتطلب المادة 657 أن تكون المثليات قد تم تسليمها " لعمل معين " ، ويمكننا القول ، من خلال الاستنتاج من هذين النصين ، بأن العقود التي يجب أن يتم التسليم بناء عليها هي : الوديعة والوكالة والإجارة والعارية والرهن والمقاولة والنقل وعقد الخدمات المجانية .
وقد وردت هذه العقود على سبيل الحصر ، لذلك فإن كل تسليم يتم بناء على عقد آخر خارج نطاق هذه العقود ، لا تقوم به جريمة إساءة الائتمان ، إعمالاً لمبدأ خطر القياس في مواد التجريم.
ويترتب على التحديد الحصري لعقود الأمانة أنه يتعين لصحة حكم الإدانة ، في جريمة إساءة الائتمان ، أن يبين – الحكم – نوع العقد الذي تم التسليم بموجبه ، حتى تتمكن محكمة النقض ، من التأكد من صحة تطبيق القانون على الواقعة .
- نطاق عقود الائتمان :
لا شك أن تسليم المال بناء على أحد عقود الأمانة ، الموجب لقيام جريمة إساءة الائتمان ، يقتصر على المصالح المدنية الخاصة ، التي يتفق عليها الأفراد ولا يمتد إلى علاقات أو روابط القانون العام ، فالموظف الذي يستلم مالاً من الدولة لحفظه ، لا يكون مسيئاً للائتمان إذا قام باختلاسه ، لأن العلاقة بين الموظف والدولة ليست علاقة تعاقدية ، إنما هي من علاقات القانون العام .
والتسليم تم بناء على مقتضيات الوظيفة ، وليس بناء على أحد عقود الائتمان ، ولكن الموظف في هذه الحالة يكون مرتكباً لجريمة أخرى هي جريمة الاختلاس ، المنصوص عليها في المادة 349 وهي من الجرائم الواقعة على الإدارة العامة .
- تكييف العقد الذي تم التسليم بموجبه :
إن التكييف القانوني للعقد ، لا يتحدد وفقاً لما يصفه عاقدوه من أوصاف ، لأن تكييف العقد من قبل عاقديه قد يكون مخالفاً لحقيقة الاتفاق ، وبالتالي فإن العبرة هي بحقيقة العقد ، وما يسبغه القانون عليه من أوصاف ، وليست العبرة بالوصف الذي يخلعه المتعاقدين على العقد ، فكثيراً ما يلجأ المتعاقدان إلى إخفاء العقد الحقيقي بعقد آخر صوري ، لتحقيق غاية معينة ، كما لو أقرض شخص آخر مبلغاً من المال ، وحرر عليه سند دين ذكر فيه أن المبلغ قد سلم إليه على وجه الوديعة ، لكي يهدده بالعقوبة المقررة لجريمة إساءة الائتمان إذا امتنع عن الدفع ، أو كما لو باع شخص لآخر مبلغاً من المال ، وحرر عليه سند دين ذكر فيه أن المبلغ قد سلم إليه على وجه الوديعة ، لكي يهدده بالعقوبة المقررة لجريمة إساءة الائتمان إذا امتنع عن الدفع ، أو كما لو باع شخص لآخر شيئاً بالتقسيط ، وذكر في العقد أنه عقد إيجار .
ففي مثل هذه الحالات يعد القاضي بالعقد الحقيقي ، ويصرف النظر عن العقد الصوري ، فهو يعطي الاتفاق التكييف القانوني السليم ، ولا يتقيد بالتكييف الذي يسبغه المتعاقدان على عقدهما .
- أثر بطلان العقد الذي تم التسليم بموجبه :
إذا ثبت أن العقد الذي تم بموجبه التسيلم ، هو من عقود الأمانة ، فإن جريمة إساءة الائتمان ، تتوافر سواء كان العقد صحيحاً أم باطلاً ، لأن العقاب في هذه الجريمة لا يترتب على الإخلال بتنفيذ عقد الائتمان ، حتى يشترط صحة العقد ، إنما يترتب العقاب في جريمة إساءة الائتمان ، لأن الجاني عبث بملكية الشيء الذي تسلمه بموجب هذا العقد ، لذلك فإن العبث في الملكية ، هو مناط التجريم في إساءة الائتمان ، لا فرق بعد ذلك أن يكون العقد باطلاً أم صحيحاً ، لأن ملكية الشيء المختلس أو المتصرف فيه من قبل الأمين ثابتة للمجني عليه ولو كان العقد باطلاً .
ومن تطبيقات قيام جريمة إساءة الائتمان ، بالرغم من بطلان العقد ، أنه إذا أرادت امرأة أن تستأجر منزلاً للدعارة ، وعلمت بأن مالكة المنزل لا تقبل تأجيره لهذا الغرض ، فلجأت إلى شخص آخر ، يستأجر لها باسمه لتنفيذ غرضها ، ودفعت له مبلغاً من المال ، فلم يقم باستئجار المسكن واختلس المبالغ ، ففعله هذا يشكل جريمة إساءة الائتمان ، رغم بطلان عقد الأمانة – وهو عقد الوكالة – الذي تم بموجبه تسليم المال من المجني عليها إلى الجاني .
- إثبات عقد الأمانة الذي تم التسليم بموجبه :
على الرغم من أن عقود الأمانة هي من العقود المدنية ، إلا أن إثباتها في محيط جريمة إساءة الائتمان ، يخضع لقواعد الإثبات في المواد المدنية ، أو في القانون المدني ، وليس لقواعد الإثبات المقررة في القانون الجزائي ، وبالتالي – طبقاً لقواعد الإثبات في المواد المدنية – يتوجب على المجني عليه أن يقدم دليلاً كتابياً ، إذا كانت قيمة العقد تزيد عن ( 500 ) ل . س ، ولا يجوز الإثبات بالبنية الشخصية ، إلا إذا وجد مانع مادي أو أدبي يحول دون حصول صاحب الحق على دليل كتابي ، أو كان العقد ذو طبيعة تجارية ، أو كانت قيمته أقل من ( 500 ) ل . س ، ففي مثل هذه الحالات فقط ، يجوز الإثبات بالبينة الشخصية ، أما في غيرها ، فلا يجوز الإثبات إلا بالدليل الكتابي .
ولكن إذا كان إثبات العقد في جريمة إساءة الائتمان يخضع في إثباته – كعنصر في الجريمة – لقواعد الإثبات المدنية ، فإن إثبات باقي عناصر الجريمة ، كالفعل والنتيجة والقصد ، يخضع لقواعد الإثبات في المواد الجزائية ، جائز بجميع الطرق .
وتجدر الإشارة إلى أن تكييف العقد ، والفصل في وجوده ، يكون من اختصاص القاضي الجزائي ، باعتباره هو الذي يختص بالدعوى ، وبالتالي فإن القاضي الذي يفصل بدعوى ، يفصل في الوقت نفسه ، بكل المسائل التي تتفرع عنها ، ولو كانت في الأصل خارجة عن اختصاصه ، فقاضي الأصل هو قاضي الفرع ، وقاضي الدعوى هو قاضي الدفع . إذاً فالقاضي الجزائي لا يتوقف عن الفصل في الدعوى حتى تبت المحكمة المدنية في وجود العقد وتكيفه، إنما هو الذي يتولى ذلك .
- استبدال العقد الذي تم التسليم بموجبه :
لا تتحقق جريمة إساءة الائتمان إلا إذا كان العقد الذي تم التسليم بموجبه قائماً وقت وقوع الفعل المادي المكون للجريمة ، وهو الكتم أو الاختلاس … الخ ، أما إذا كان العقد قد انتهى ، نظراً لاستبداله بعقد لا يندرج ضمن عقود الأمانة ، فلا تتوافر في هذه الحالة جريمة إساءة الائتمان .
فالمستأجر الذي يشتري من المؤجر الشيء المنقول ، ويتصرف فيه قبل دفع ثمنه ، لا يتوافر بفعله جريمة إساءة الائتمان ، والاستبدال الذي يحول دون قيام جريمة إساءة الائتمان ، حتى يحقق أثره في نفي الجريمة ، لا بد أن يتوافر فيه شرطان :
الأول :
أن يكون الاستبدال قد حصل قبل وقوع الفعل المادي المكون للجريمة ، أما إذا حصل الاستبدال بعد وقع الفعل ، فإن هذا الاستبدال لا يؤثر على توافر جريمة إساءة الائتمان ، فهي تبقى قائمة بالرغم من ذلك ، فإذا لجأ الأمين إلى الاستبدال بعد وقوع الفعل ( التصرف أو الإتلاف … ) بقصد الهرب من المسؤولية ، أو إذا كان الدائن لم يقبل الاستبدال ، إلا باعتباره طريقة الإثبات حقه ، أو على أمل تعويض ما ضاع عليه بسبب الفعل ، فإن الاستبدال لا يؤثر في وجود جريمة إساءة الائتمان ، ولا يمنع من المسؤولية الجزائية .
الثاني :
أن يكون الاستبدال صحيحاً أو حقيقياً ، أي يجب أن يكون هناك عقداً جديداً تم استبداله بالعقد القديم ، كالبيع أو القرض … الخ . فإذا لم يكن الاستبدال صحيحاً أو حقيقياً ، فإن عقد الأمانة يبقى قائماً ، ولا يحول هذا الاستبدال دون قيام جريمة إساءة الائتمان ، فإذا اقتصر العقد الجديد على تعديل بعض شروط عقد الأمانة أو تعديل الطريقة التي يتم بها الوفاء ، أو تم تعديل بعض شروط عقد الأمانة أو تعديل الطريقة التي يتم بها الوفاء ، أو تم تعديل موعد الرد ، فكل ذلك لا يؤدي إلى انقضاء قد الأمانة وزوال آثاره ، وبالتالي لا يخول دون قيام جريمة إساءة الائتمان .
|