ثار جدل كبير حول طبيعة القانون الدولي الخاص تمخض عن وجود عدة اتجاهات في تحديد طبيعته وكان الجدل دائراً حول ما إذا كان القانون الدولي الخاص يعتبر فرعاً من القانون الداخلي أم القانون الدولي , ثم إذا اعتبرناه من القانون الداخلي فهل نعتبره من فروع القانون العام أم الخاص .
والحقيقة أن البحث في طبيعة القانون الدولي الخاص ليس بالأمر السهل , وذلك أنه يضم موضوعات متعددة ومختلفة في طبيعتها , بالإضافة لتعدد مصادره , فهناك مصادر وطنية ومصادر دولية , فضلاً عن الخلاف القائم حول طبيعة هذه المصادر .
كذلك فإن موضوعاته لا يضمها تشريع واحد , بل إنها متناثرة بين عدة قوانين . وفي ظل هذه المعطيات يثور التساؤل عن مكانة القانون الدولي الخاص بين فروع القانون المختلفة .
أولاً – القانون الدولي الخاص قانون دولي أم قانون وطني ( داخلي ) :
يرى البعض أن القانون الدولي الخاص ما هو إلا انعكاس للقانون الداخلي على صعيد العلاقات ذات الطابع الدولي , وبالتالي فهو قانون وطني .
أما الحجج التي يستند إليها هؤلاء فتنطلق من ارتباط هذا القانون بمصادر داخلية تفوق بأهميتها أي مصدر دولي أخر , ومن خضوع هذا القانون وتعلقه بسيادة كل دولة . فالمصادر الدولية ليست سوى مصادر ثانوية إذا ما قيست بالمصادر الداخلية المتزايدة, كما أنها وإن كانت تستند إلى أساسين وهما : المعاهدات الدولية والعرف الدولي إلا أن كلاً منهما لا يقدم قواعد ثابتة يرتكز عليها هذا القانون في تواجده .
فالمعاهدات الدولية , فضلاً عن أنها صعبة التحقيق عملاً , تفترض إجماع الدول على المسائل المطروحة . كذلك فالعرف الدولي بالرغم من أنه ينشأ من انتشار التعامل الدولي , لكنه يحتاج في وجوده إلى هيئة عادة ما تكون داخلية تقوم بتطبيقه , ويبدو بالنتيجة كل شيء انعكاساً للداخل على علاقات تتجاذبها قوانين مختلفة .
علاوة على ذلك فإن القانون الدولي الخاص هو في حقيقته عمل من أعمال السيادة كونه يعالج علاقات فردية خاصة ذات طابع دولي تنظر بها محاكم داخلية تطبق الحل الذي يضعه المشرع الداخلي , فكل دولة لها نظام متكامل يحتوي على الحلول المختلفة للمسائل المتنوعة , وبالنتيجة فكل دولة لها قانونها الدولي الخاص إلي تضع قواعده وتهيمن عليه بقوانينها الداخلية .
هذا النظر لم يرق لفريق آخر من الفقه الذين اعتبروه أنه يستند إلى حجج واهية , فالقانون الدولي الخاص لا يستمد من مصادر وطنية فقط , بل دولية أيضاً تتمثل في المعاهدات والعرف الدولي ومبادئ القانون الدولي الخاص السائدة في دول العالم , فضلاً عن ذلك فإن " القانون يوصف بنوع العلاقات التي يحكمها لا بنوع مصادره فكما أن القانون المدني هو الذي يحكم علاقات مدنية والقانون التجاري يحكم علاقات تجارية , فكذلك القانون الدولي الخاص هو الذي يحكم علاقات دولية .
كذلك لا يجوز الاستناد للقول بوطنية القانون الدولي الخاص " إلى كونه ينظم علاقات فيما بين أفراد , ذلك أن القانون الوطني هو الذي ينظم العلاقات الوطنية البحتة , فهو يتجه إلى المجتمع الداخلي للدولة . والقانون الدولي , أو العلاقات التي تتعدى حدود الدولة الواحدة , وبالتالي فهو لا يتجه إلى المجتمع الداخلي بل يتجه إلى المجتمع الدولي مما يوجب كونه دولياً .
كذلك فاستقلال القانون الدولي الخاص في كل دولة على حدة , يعود إلى غياب سلطة عليا تتولى مهمة التشريع على صعيد لمجتمع الدولي , وحتى أن هذا الغياب يعتبر جزئياً نظراً لوجود قواعد مشتركة للقانون الدولي الخاص , نتيجة للمصادر الدولية التي يستمد منها هذا القانون بالإضافة إلى المحاولات والجهود المتواصلة لتوحيد قواعد هذا القانون بين مختلف دول العالم .
ولدى هؤلاء فإن حقيقة الأمر أن المجتمع الدولي تنشأ فيه علاقات قانونية تحكمها قواعد دولية , وأن بعض هذه العلاقات تقوم فيما بين الدول وينظمها الدولي العام , أما البعض الآخر فتقوم فيما بين الأشخاص وينظمها القانون الدولي الخاص , وبالتالي فهناك مبادئ في القانون الدولي الخاص مشتركة فيما بين الكثير من الدول , بالإضافة لذلك فهناك تأثير متبادل فيما بين القانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص .
ثانياً – القانون الدولي الخاص قانون عام أم قانون خاص :
ذهب البعض إلى اعتبار أن القانون الدولي الخاص يشكل فرعاً ن فروع القانون العام, وذلك لتعلق موضوعاته بالقانون العام .
فالجنسية ما هي إلا رابطة تفرضها الدولة بإرادتها المنفردة على الفرد وبالتالي فهي تخضع للاعتبارات العامة والسياسية إذا أنها تتعلق بتكوينها حيث يتحدد بموجبها ركن من أركان الدولة وهو الشعب . وهو ما أكدته محكمة النقض الفرنسية .
كذلك الأمر بالنسبة لمركز الأجانب حيث ينظم وفقاً لقواعد العام كونه علاقة بين الفرد والدولة , ولأن تحديد الحقوق التي يتمتع بها الأجانب في الدولة لا يقتصر على الحقوق الخاصة , بل يتناول الحقوق التي يتمتع بها الأجانب في الدولة لا يقتصر على الحقوق الخاصة , بل يتناول الحقوق العامة أيضاً , ولأن هذا التحديد يخضع على أية حال للاعتبارات السياسية للدولة .
وأيضاً تنازع القوانين فهو وإن كان يثور بين القوانين العامة كما يثور بين القوانين الخاصة , إلا أن الوسيلة الفنية المتبعة والمألوفة لحل التنازع وهي قواعد الإسناد تؤدي إلى تحديد مجال سلطان القوانين الوطنية والأجنبية , وهو أمر يتعلق بالقانون العام .
وبالنسبة لتنازع الاختصاص القضائي الدولي فهو يدخل أيضاً في نطاق القانون العام , لأنه يتعلق بالنظام القضائي للدولة , فهو الذي يبين حدود اختصاص القضاء الوطني , وعلى العكس من الاتجاه السابق ذهب رأي آخر لاعتبار القانون الدولي الخاص وذلك على أساس أنه ينظم علاقات خاصة .
ويذهب البعض لتأييد هذا النظر من خلال القول بأن القانون العام يتعلق بالدولة بوصفها موضعاً للقانون , القانون الدستوري أو بوصفها شخصاً من أشخاصه ( القانون الإداري) ولا تبدو الدولة في مجال القانون الخاص إلا بوصفها مصدراً للقانون .
وبناء على ذلك يعتبر القانون الدولي الخاص من القانون الخاص لأن الدولة تبدو في موضوعه الرئيسي وهو تنازع القوانين مجرد (( مصدر للقانون )) وليس موضوعاً له أو شخصاً قانونياً من أشخاصه .
وأيضاً إذا كان من المشكوك فيه إطلاق وصف القانون الخاص على بعض موضوعات القانون الدولي الخاص كالجنسية ومركز الأجانب فإن الصلة الوثيقة بين موضوعات هذا القانون تحتم اجتماعها في مادة واحدة , وبالتالي إذا أردنا تحديد طبيعته فينبغي الاعتناء بالموضوع الرئيسي فيها إلا وهو تنازع القوانين , وبما أن هذا الموضوع من القانون الخاص لذلك يجب أن نعتبر القانون الدولي الخاص في مجموعة من القانون الخاص .
ومن جهتنا فإنه لا يمكن لنا أن نذهب مع أي من الاتجاهين السابقين لأنه إذا اتبعنا الأسلوب العلمي السليم وأخذنا بمعيار واحد للتفرقة بين القانون العام والخاص , فلا يمكن الوصول إلى إدراج كافة موضوعات القانون الدولي الخاص في إطار القانون الخاص , وهو ما دفع البعض للقول بأن القانون الدولي الخاص طبيعة مستقلة , أو بأنه قانون مختلط أو للقول بأنه " لو أخذنا موضوع القانون الدولي الخاص بالمعنى الواسع الذي يشمل الجنسية والموطن ومركز الجانب وتنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي , لصعب وسم قواعده جميعاً بطابع واحد من القانون العام أو القانون الخاص .
إن تطور المعاملات القانونية يكشف باستمرار عن فروع جديدة للقانون لا تدخل في التقسيم التقليدي إلى عام وخاص , بل حتى أن البعض من فروع القانون التقليدية كالجزائي وقانون أصول المحاكمات , نجد هناك اختلافاً حول إدراجها في أحد قسمي القانون العام أو الخاص . كذلك فإنه لا يوجد معيار محل اتفاق للتميز بين القانون العام والقانون الخاص , إذ أن الأمر محل خلاف كبير فهناك من يأخذ بمعيار أطراف العلاقة وهناك من يغلب الإعداد بالمصلحة المستهدفة , ويوجد من يحبذ النظر إلى موضوع العلاقة أو طبيعة القواعد وغير ذلك .
بالإضافة إلى ذلك لم يعد هناك أهمية كبيرة للتفرقة بين القانون العام والخاص حيث يرى بعض الفقه الحديث " هجر سائر التقسيمات التي لا تقوم للقانون الدولي الخاص وقوانين عامة أو أساسية لا يتصور بالنسبة لها أن تنطبق خارج حدود الدولة التي أصدرتها .
كما يرى البعض أن تقسيم القانون إلى عام وخاص قد أصبح موضع تردد الكثيرين لعدم تعبيره بصورة صادقة عن العلاقات القانونية المختلفة في تشابكها وتعقدها خاصة مع تطور الفكر القانوني بشكل مواز للتطور الذي يحدث في الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي في الأزمنة الحديثة , وهو الأمر الذي صارت معه الحدود بين القانون العام والقانون الخاص , وغير منضبطة وفي كثير من الأحيان غير منسجمة .
أذاً فالقانون الدولي الخاص له طبيعة خاصة تعود لخصائصه الذاتية التي ترجع إلى تعدد مصادره ففضلاً عن المصادر الوطنية هناك مصادر دولية , وكذلك تنوع موضوعاته وتباين طبيعة القواعد الناظمة لها .
وقد أحسن البعض عندما ذهب لتعريفه بأنه : " فرع من فروع القانون ذو طبيعة مختلطة يهدف إلى تنظيم علاقات الأفراد المشتملة على عنصر أجنبي عن طريق قواعد موضوعية ( مادية ) تحدد جنسية الأشخاص التابعين للدولة ومركز الأجانب القانوني فيها , وتعين حالات اختصاص المحاكم الوطنية بنظر المنازعات المتعلقة بها وتبين آثار الأحكام والقرارات والإسناد الأجنبية , وقواعد إسنادية ( تنظيمية ) تعنى بتحديد القانون الواجب التطبيق على هذه العلاقات .
|