إن القانون الأجنبي لا يعد من قبيل الوقائع ، بل هو قانون بالمعنى الفني ، و بهذا فإن الكشف عن أحكامه ليس إثباتاً بالمعنى الاصطلاحي ، لأن الإثبات لا يرد إلا على الوقائع من دون القواعد القانونية .
و ينبني على ذلك أن طرق و وسائل البحث و التعرف على أحكام القانون الأجنبي ليست بالضرورة طرق و وسائل الإثبات المعروفة .
فلا يتقيد القاضي بتلك الأخيرة ، بل له اللجوء إلى ما يراه ملائماً للتعرف على قواعد و أحكام القانون الأجنبي .
و حرية طرق الكشف أقرتها التشريعات المقارنة .
فهناك أولاً : إقرار و اتفاق الخصوم على مضمون معين للقانون الأجنبي . إلاّ أن القضاء لا يعول على تلك الوسيلة لاحتمال تواطؤ الخصوم على تصور معين لأحكام القانون واجب التطبيق يستجيب لمصالحهم .
و ثانياً: هناك الصور و الترجمات الرسمية الصادرة عن جهات مختصة و معتمدة لأحكام القانون الأجنبي ، و يلحق بها الشهادات و المستندات المثبتة لأحكام القانون الأجنبي و التي يحررها المتخصصون من رجال القانون و القناصل و الفقهاء و القضاة في الدولة الصادر عنها ذلك القانون , و التي اصطلح على تسميتها " شهادة العرف " , هي وسيلة يطبقها القضاء ، و لا يُعارضها الفقه .
و ثالثاً: هناك التطبيقات القضائية لهذا القانون ، و مؤلفات الفقهاء و رجال القانون التي تتناول بالشرح و التعليق أحكام القانون الأجنبي .
و هناك الخبرة ، التي تعد من الوسائل الناجحة و الأكثر انتشـــاراً في العمل و تلقى تأييداً من الفقه ، سواء كانت شفوية أم مكتوبة . و هي ما ينهض بها شخص تختاره المحكمة أو يتفق عليه الخصوم و تأمر به المحكمة و يكون ضمن ذوي الاختصاص ، بحيث يزود المحكمة بما يلزمها من معلومات تتعلق بأحكام و قواعد القانون الأجنبي .
وأياً كانت الطريقة أو الوسيلة التي يُستعان بها للكشف عن أحكام القانون الأجنبي ، فإن القاضي يتمتع بشأنها بسلطة تقديرية واسعة في تقدير وقيمة كل وسيلة أو طريقة .
ولا شك أن مهمة القاضي ستكون شاقة في البحث عن أحكام القوانين الأجنبية التي لم يألفها و ليس له بها عهد , كالقانون الصيني أو البرازيلي أو المجري بالنسبة للقاضي السوري .
و من هنا كانت الدعوة إلى تخصيص هيئات أو أجهزة في وزارة العدل أو الخارجية تنهض بمهمة تزويد المحاكم بترجمات القوانين الأجنبية إلى اللغة الوطنية ، و كذا الوثائق كلها التي يمكن أن يطلبها القاضي بشأن تلك القوانين .
و حبذا لو أنشئت مثل تلك الهيئات أو الأجهزة في سوريا كي تقدم العون للقضاة الذين قلّ رصيدهم من اللغات الأجنبية في ظل السياسة الحالية للتعليم بكليات الحقوق في بلادنا .
على أن أكثر الوسائل فاعلية في الاستعلام عن القانون الأجنبي هي الاتفاقيات الدولية التي تذلل صعوبات التعرف على أحكام و قوانين الدول الأطراف فيها ، سواء بإنشاء إدارات خاصة لتبادل الوثائق و المعلومات القانونية فيما بينها ، أم بتسهيل سبل الاستعلام المباشر بين المحاكم بشأن قوانين كل منها .
و من أمثلة تلك الاتفاقيات نذكر الاتفاقية التي أبرمت في 7 / 6 / 1968 في لندن فيما بين دول السوق الأوربية المشتركة المتعلقة بالاستعلام عن القانون الأجنبي .
و لكن ما الحل فيما لو استحال على القاضي الوطني التوصل إلى أحكام القانون الأجنبي الواجب التطبيق ؟
تنوعت الاتجاهات الفقهية التي واجهت هذا الفرض :
فمنهم من قال بضرورة امتناع القاضي عن الفصل في النزاع .
و منهم من قال بتطبيق المبادئ السائدة لدى الأمم المتمدنة .
و من قائل بتطبيق القانون الأقرب في أحكامه إلى القانون الذي تعذر الكشف عن مضمونه ، إلى قائل بتطبيق القانون الأكثر ارتباطاً بالمسألة المعروضة بعد القانون الذي تعذر الكشف عن
أحكامه .
و لكن الغالبية العظمى من الفقه تتجه في هذه الحالة إلى إعمال قانون القاضي , نظراً للاعتبارات العملية .
كما يمكن أن يسوغ تطبيق قانون القاضي بما له من اختصاص " احتياطي " في الأحوال التي يتعذر فيها الكشف عن مضمون القانون الأجنبي صاحب الاختصاص الأصيل بموجب قواعد القانون الدولي الخاص . إلا أن القول بتطبيق قانون القاضي دائماً في مثل تلك الأحوال لا يخلو من الخطورة .
اكتب تعليق