لم يبين المشرع السوري من أحكام التدخل في المادتين 218 و 219 من قانون العقوبات إلا وسائله و عقابه . و لكن الفقه و القضاء حددا أركان التدخل على ضوء المبادئ العامة للتشريع الجزائي .
فالتدخل لا يعتد به إلا إذا تمت مادياته ( و منها عناصر الركن المادي ) بإحدى الوسائل المنصوص عليها حصراً في المادة 218 من قانون العقوبات . و هذا هو ركنه الأول .
و التدخل لا يعد جريمة بحد ذاته , من حيث المبدأ ,
وإنما يستمد جرميته من الجريمة التي تم التدخل فيها . فالتدخل الإجرامي إذن يتطلب أن يكون الفعل الذي تم التدخل من أجله جريمة , و هذا هو ركنه الثاني .
و التدخل أخيراً يتطلب قصداً إجرامياً لدى المتدخل , و هذا هو ركنه الثالث . و سندرس هذه الأركان على التوالي :
حددت المادة 218 من قانون العقوبات السوري الوسائل التي يتكون بها الركن المادي للتدخل , فنصت على ما يلي :
(( يعد متدخلاً في جناية أو جنحة :
أ- من أعطى إرشادات لاقترافها و أن لم تساعد هذه الإرشلادات على الفعل .
ب- من شدد عزيمة الفاعل بوسيلة من الوسائل .
ج- من قبل , ابتغاء مصلحة مادية أو معنوية , عرض الفاعل أن يرتكب جريمة .
د- من ساعد الفاعل أو عاون على الأفعال التي هيأت الجريمة أو سهلتها أو على الأفعال التي أتمت ارتكابها .
هـ- من كان متفقاً مع الفاعل أو أحد المتدخلين قبل ارتكاب الجريمة وساهم في إخفاء معالمها أو تخبئة أو تصريف الأشياء الناجمة عنها , أو إخفاء شخص أو أكثر من الذين اشتركوا فيها عن وجه العدالة .
و – من كان عالماً بسيرة الأشرار الجنائية الذي دأبهم قطع الطريق أو ارتكاب أعمال العنف ضد أمن الدولة أو السلامة العامة , أو ضد الأشخاص أو الممتلكات , و قدم لهم طعماً أو مأوى أو مختبأ أو مكاناً للاجتماع )) .
هذه هي وسائل التدخل التي ذكرها المشرع السوري على سبيل الحصر , و سنشرحها على التوالي :
و يقصد بالإرشادات هنا كل فعل شفهي أو كتابي أو حركي يتضمن معلومات أو توجيهات أو إشارات أو تنبيه أو تحذير من شأنه مساعدة الفاعل على اقتراف الجريمة .
و مثال هذه الإرشادات , بيان كيفية فتح الخزائن , أو فتح الأبواب , أو كيفية استعمال آلة الطباعة في تزييف العملة , أو الدلالة على مكان وجود المجني عليه , أو على مكان الأشياء المراد سرقتها , أو بيان كيفية صنع مادة متفجرة .
و يعد المتدخل مسؤولاً عن تقديم الإرشادات إلى الجاني , حتى لو لم تساعد هذه الإرشادات في ارتكاب الجريمة , أي إذا انتفت صلة السببية بين إرشادات المتدخل و الجريمة .
يقصد بتشديد عزيمة الفاعل , شحذ همته , و رفع معنوياته , و بعث الثقة في نفسه , أي بعبارة واحدة النهوض بحالته النفسية لتأكيد العزم و التصميم لديه على ارتكاب الجريمة . و هذا التشديد يمكن أن يتم بأية وسيلة من الوسائل , كالتأكيد على أهمية فعل الفاعل , أو إطراء شجاعته , أو وعده بالوقوف إلى جانبه فيما إذا ألقي القبض عليه و تحمل مصاريف الدفاع عنه أمام القضاء , و رعاية عائلته ....
و هنا لابد من التفريق بين التدخل في الجريمة عن طريق تشديد عزيمة الفاعل و بين التحريض . فالتحريض كما رأينا يفترض فيه أن يكون المحرض خالي الذهن من الجريمة ,
فيأتي المحرض ليخلق فكرتها لديه . أما التدخل بتشديد عزيمة الفاعل , فيفترض فيه أن يكون الفاعل قد صمم من قبل على ارتكاب جريمته , إلا أنه متردد فيها ,
فيأتي شخص آخر لشد عزيمته , و شحذ همته و إلهاب حماسه , و هذا الشخص يعد متدخلاً لا محرضاً .
و هذه الوسيلة معاكسة للتحريض تماماً , و هي ذات طابع خاص , فالذي يعرض ارتكاب الجريمة هو الفاعل نفسه , ولا يطلب من الطرف الآخر إلا القبول ليتم الاتفاق . و لكن يشترط أن يكون مبعث القبول هو تحقيق مصلحة مادية أو معنوية .
و مثال ذلك انتهاز الفاعل لخصومة واقعة بين شخصين , فيعرض على أحدهما أن يخلصه من خصمه , فيقبل من عرضت عليه الجريمة بهذا العرض و يرحب به , لأن إزاحة خصمه تعود عليه بمنفعة مادية ( كتاجرين يعملان بتجارة واحدة , و غياب أحدهما عن ميدان التجارة يعود بالنفع على الآخر ) , أو بمنفعة معنوية , ( كموظفين إزاحة أحدهما تساعد الآخر على استلام مركزه و سلطته ) .
و تتضمن هذه الوسيلة لوناً آخر من ألوان مساعدة الفاعل في اقتراف الجريمة .
فالأفعال المهيئة للجريمة هي النشاط السابق على تنفيذها , كإعطاء السلاح للفاعل , أو المادة السامة أو أدوات الكسر , أو المفتاح .
و الأفعال المسهلة للجريمة , هي النشاط الذي يمكن الفاعل من تنفيذ الجريمة , فيكون معاصراً لها أو يسبقها مباشرة . و مثالها ترك أبواب المنزل مفتوحة قبل وصول اللصوص لتسهيل دخولهم إليه , أو استبقاء المجني عليه في مكان معين ريثما يأتي الجناة فيقتلونه , أو إشغال صاحب المنزل لتأخيره عن العودة لمنزله ريثما يتم اللصوص مهمتهم فيه , أو إبعاد الحارس عن مكان الجريمة , قطع التيار الكهربائي عن مكان الجريمة , أو إطلاق غاز مسيل للدموع أو مشل للحركة أو للأبصار .
و الأفعال التي أتمت ارتكاب الجريمة , هي كل نشاط يساعد على إتمامها كنصب سلم يهبط عليه اللصوص بعد السرقة , أو الانتظار بسيارة أمام المنزل الذي وجد فيه اللصوص لنقل الأشياء المسروقة , أو تعطيل خط الهاتف لتأخير الاتصال بالإسعاف .
و يقصد بإخفاء معالم الجريمة طمس آثارها المادية , كإزالة البصمات , أو تخبئة السلاح , أو إخفاء جثة القتيل . أما تخبئة الأشياء الناجمة عن الجريمة و تصريفها , فيعني إبعادها عن وجه العدالة حتى لا يتم اكتشافها . و مثل ذلك أيضاً إخفاء شخص أو أكثر من المشتركين في ارتكاب الجريمة .
و يشترط في هذه الوسيلة من وسائل التدخل , أن يتم بناء على اتفاق سابق لارتكاب الجريمة , بين المتدخل و الفاعل أو أحد المتدخلين , أي أن يكون المتدخل قد وافق قبل ارتكاب الجريمة على أن يقوم بإخفاء الأشياء أو الأشخاص بعد تمام ارتكابها . و هذا ما يفرق المتدخل بهذه الوسيلة عن المخفي . فإذا ساهم شخص في إخفاء معالم الجريمة أو تخبئة أو تصريف الأشياء الناجمة عنها , أو إخفاء شخص أو أكثر من الذين اشتركوا فيها عن وجه العدالة , و كان متفقاً من قبل مع الجناة على هذا الإخفاء , فإنه يعد متدخلاً . أما إذا قام بالإخفاء بغير اتفاق سابق للجريمة , فهو مخفي , كما سنرى ذلك بعد قليل , عند دراستنا لجريمة إخفاء الأشياء أو الأشخاص.
و هنا يكفي الشخص ليعد متدخلاً أن يكون عالماً بسيرة هؤلاء الأشرار , و لا يشترط أن يكون متفقاً معهم من قبل , أو له علاقة بجرائمهم .
لا تشكل أكثر وسائل التدخل التي ذكرناها قبل قليل جرائم بحد ذاتها , فإعطاء إرشادات بكيفية فتح الخزائن الحديدية , أو إعارة سلم لأحد الأشخاص , أو مراقبة الطريق , هي من أمور الحياة العادية , التي لا يعاقب عليها القانون . و لكن هذه الوسائل تصبح جرائم بالتبعية , إذا ارتبطت بفعل مجرم قانوناً .
و الفعل المجرم الأصلي الذي يتم التدخل فيه , يجب أن يكون من نوع الجناية أو الجنحة , أما المخالفات فالتدخل فيها غير معاقب عليه .
و إذا كان يشترط في التدخل أن يكون في فعل مجرم , فلا يشترط أن يكون عقاب الفاعل ممكناً . فقد يكون الفاعل غير أهل للمسؤولية الجزائية كالمجنون و السكران , أو مستفيداً من عذر محل , و مع ذلك فالمتدخل يكون مسؤولاً مسؤولية جزائية كاملة .
إلا أن التدخل في فعل مباح لا عقاب عليه , كالتدخل في الدفاع الشرعي , أو في التطبيب , أو في الألعاب الرياضية .
و يشترط أيضاً في التدخل أن تقع الجريمة المتدخل فيها , أي أن ينفذ الفاعل الجريمة . أما إذا ذهبت جهود المتدخل سدى , و لم ينفذ الفاعل الفعل الذي تم التدخل من أجله فلا عقاب على المتدخل . و هذا الحكم مخالف لما هو عليه الأمر في التحريض , لأن المحرض مسؤول , كما ذكرنا من قبل , سواء أوقعت الجريمة أم لم تقع .
و لكن إذا عدل المتدخل عن تدخله قبل وقوع الجريمة , و لم يلق الفاعل بالاً لعدوله و قام بجريمته , فعدول المتدخل لا قيمة له , و مسؤوليته كاملة . و هذا الحكم مشابه لحكم المحرض .
ذكرنا قبل قليل أن أكثر الأفعال التي يقوم بها المتدخل لا تشكل جرائم بحد ذاتها , بل تستمد جرميتها من الفعل الذي تم التدخل من أجله .
و بناءً على ذلك فلا بد من أن يعلم المتدخل بأنه يساهم في فعل مجرم , و أن يريد وقوع هذا الفعل و تحقق نتيجته .
فإذا باع شخص سلاحاً لشخص آخر أو قدمه هدية له . فلا يعد تدخلاً في جريمة القتل التي ترتكب بهذا السلاح , إذا كان لا يعلم بأن جريمة قتل أو جرح سترتكب بسلاحه . و إذا قدم شخص إلى آخر آلة كاتبة فاستعملها في تزوير سند , فلا يعد متدخلاً في جريمة التزوير , إذا كان لا يعلم بهذه الجريمة .
و لا بد من الإشارة إلى أن القصد الإجرامي يكفي فيه العلم بالجريمة المتدخل فيها , و إرادة إحداثها , و لا يشترط أن يتعدى ذلك إلى الاتفاق و التفاهم , أي لا يشترط أن يكون الفاعل و المتدخل متفقان و متفاهمان على ارتكاب الجريمة , و أن توزع الأدوار بينهما , فيقوم كل واحد منهما بدور معين .
فمن يعرف بمكان و زمان جريمة سرقة , فيذهب متطوعاً ليساعد اللصوص على حمل الأشياء المسروقة بسيارته يعد متدخلاً , و الخادم الذي يعلم باتفاق عدد من الأشخاص على سرقة منزل مخدومه فيترك الباب مفتوحاً ليسهل لهم الدخول يعد متدخلاً .
و يرى جانب من الفقه أن التدخل لا يمكن تصوره في الجرائم غير المقصودة لسببين :
الأول – لأن طبيعة الجرائم غير المقصودة تأبى التدخل قانوناً , فالإرادة فيها لا تتجه إلا إلى الفعل , بينما الإرادة في التدخل يجب أن تتجه إلى الفعل و النتيجة معاً .
و الثاني – أن القصد الإجرامي في التدخل يتكون من اتفاق المتدخل مع الفاعل , و هذا الاتفاق يفترض توافر علم المتدخل بعناصر الجريمة و إرادته لها , و هذا لا يمكن أن يحدث إلا في الجرائم المقصودة .
و الشخص الذي يساعد في جريمة غير مقصودة , حسب هذا الفقه , يرتكب جريمة قائمة بذاتها و مستقلة عن فعل الفاعل , كما يمكن أن يسأل كشريك , لأن الخطأ كاف لقيام الركن المعنوي في الاشتراك .
و في تقديرنا أن هذا الرأي لا سند له في القانون .
فالسبب الأول غير صحيح , لأن العلاقة الذهنية و النفسية في الجريمة غير المقصودة لا تنقطع عن النتيجة . و تتكون هذه العلاقة من عدم توقع النتيجة , وواجب توقعها , و إمكانية توقعها , و الحيلولة دون حدوثها .
و السبب الثاني غير صحيح أيضاً , لأن القصد الإجرامي في التدخل لا يتكون دائماً من الاتفاق , و إنما يمكن أن يتكون من مجرد علم المتدخل بجريمة الفاعل و إرادته لها .
و على هذا الأساس , فإن التدخل يمكن أن يكون في الجرائم غير المقصودة , كما يمكن أن يكون في الجرائم المقصودة , حيث يظهر الركن المعنوي في الأولى بصورة الخطأ , و في الثانية بصورة القصد الإجرامي . فإذا جانب المتدخل واجب الحيطة و الحذر , و لم يتوقع النتيجة , و كان من واجبه توقعها , و بإمكانه توقعها و الحيلولة دونها , فإنه يكون متدخلاً في جريمة غير مقصودة . أما إذا كان عالماً بالفعل و بالنتيجة , و كان يريد تحققهما على يدي الفاعل , فإنه يكون متدخلا في جريمة مقصودة .
و من أمثلة المتدخل في الجرائم غير المقصودة , من يسلم مفاتيح سيارته إلى شخص يعلم برعونته في القيادة , أو يعلم بأنه غير حائز على رخصة قيادة السيارة , فيدهس هذا الشخص أحد المارة , و من يوجه شخصاً يعمل على سطح منزل لإلقاء حجر إلى الشارع , فيؤذي الحجز إنساناً.
يتطلب القصد الإجرامي العلم بالجريمة ذاتها التي يتم التدخل فيها . أما إذا قام الفاعل بارتكاب جريمة أخرى فلا يقع التدخل في هذه الجريمة . كمن يقدم سلماً لآخر ليرتقي به جداراً لسرقة منزل , فإذا بالفاعل يجد امرأة فيه فيغتصبها . فهنا لا يعتبر المتدخل مسؤولاً عن جريمة الاغتصاب , لأنه لم يتدخل فيها , و إنما تدخل في جريمة ثانية .
اكتب تعليق