إن تقسيم الحقوق المالية إلى حقوق عينية وحقوق شخصية هي تفرقة تقليدية قديمة سائدة منذ عهد القانون الروماني حتى يومنا هذا , وهي تفرقة أساسية في قانوننا المدني , حيث اتخذها المشرع أساساً لتقسيم القانون المدني إلى قسمين , خصص أحدهما للحقوق الشخصية أو الالتزامات , والثاني للحقوق العينية .
ويمكننا أن نقارن بين الحق العيني والحق الشخصي من ثلاثة وجوه :
1) من حيث الأطراف .
2) ومن حيث المحل .
3) ومن حيث النتائج والآثار .
يختلف الحق العيني عن الحق الشخصي من حيث أن :
الحق العيني يوجد فيه طرف واحد موجب , هو صاحب الحق , أي صاحب السلطة على الشيء محل الحق .
أما في الحق الشخصي فيوجد دائماً طرفان : طرف موجب هو الدائن أي صاحب الحق , وآخر سلبي هو المدين .
ففي حق الملكية مثلاً يوجد طرف واحد هو صاحب الحق , أي المالك , ولا يوجد طرف آخر غيره بالنسبة لهذا الحق .
أما في العلاقة بين المقرض والمقترض فيوجد صاحب الحق وهو الدائن أي المقرض , وطرف آخر يلتزم بتسديد القرض وهو المدين أي المقترض .
إلا أن بعض الفقهاء , وفي مقدمتهم الفقيه الفرنسي بلانيول , حاول هدم هذا الفارق بين الحق العيني والحق الشخصي , وذلك عن طريق تقريب الحق العيني من الحق الشخصي .
ويسمى أصحاب هذا المذهب بالشخصيين , لأن الحقوق المالية عندهم لا يمكن أن تكون إلا رابطة بين أشخاص , فإذا كان الحق الشخصي رابطة بين طرفين , فإن الحق العيني لا يختلف عنه ذلك , فهو في حقيقته رابطة بين طرفين أيضاً موجب وسالب , أما الطرف الموجب أو الدائن فهو صاحب الحق العيني , وأما الطرف السالب أو المدين فيشمل جميع الناس عدا صاحب الحق , إذ أنهم يلتزمون باحترام هذا الحق وعدم التعرض لصاحبه .
وبذلك ينتهي أصحاب هذا الرأي إلى أن الحق العيني يتكون من ثلاثة عناصر : الدائن أي صاحب الحق , والمدين , والشيء موضوع الحق , وهذه العناصر الثلاثة موجودة أيضاً في الحق الشخصي , فلا فرق بين الحقين إلا فيما يتعلق بشخص المدين وطبيعة الالتزام المفروض عليه :
فالمدين في الحق الشخصي هو شخص أو أشخاص معينين بالذات ويلتزمون إما بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل .
بينما المدين في الحق العيني ليس محدداً , وإنما يشمل جميع الناس ما عدا صاحب الحق , وهم يلتزمون دائماً بالامتناع عن عمل وهو عدم التعرض لصاحب الحق .
لكن هذا المذهب لم يكتب له النجاح ,ومن المغالطة القول بأن التزام الناس باحترام الحق العيني والامتناع عن التعرض لصاحبه يشابه التزام المدين في الحق الشخصي , ذلك أن الالتزام الواقع على المدين في الحق الشخصي هو ركن في هذا الحق وعنصر جوهري من عناصره , فلا يتصور وجود الحق الشخصي بدونه , بينما نجد أن الواجب العام المفروض على الكافة باحترام الحق العيني وعدم التعرض لصاحبه ليس عنصراً من العناصر المكونة للحق العيني , وإنما هو مجرد نتيجة لتقريره , إذ لا يتصور تكليف الكافة باحترام حق معين إلا إذا توافرت فيهجميع عناصره .
ثم إن هذا الواجب العام المفروض على الكافة باحترام الحق وعدم التعرض لصاحبه ليس قاصراً على الحق العيني , بل هو موجود كذلك بالنسبة للحق الشخصي , فالناس مكلفون باحترام الحقوق الشخصية وعدم عرقلة استعمالها أو الاعتداء عليها , كما أنهم مكلفون بذلك بالنسبة للحقوق العينية .
وعلى هذا سيظل الحق العيني متميزاً عن الحق الشخصي من حيث الأطراف , فإذا اعتبرنا أن أطراف الحق العيني هم صاحب الحق العيني من جهة والناس كافة الملزمون باحترامه وعدم التعرض لصاحبه من جهة ثانية , فإن أطراف الحق الشخصي هم الدائن صاحب الحق من جهة وكافة الملزمون باحترام هذا الحق من جهة ثانية , وهناك أيضاً المدين أو الملتزم بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل من جهة ثالثة .
فالاختلاف يظل قائماً بين الحق العيني والحق الشخصي :
ففي الأول ( الحق العيني ) لا نجد سوى الواجب العام الذي يقع على الناس كافة ؛
بينما نجد في الثاني ( الحق الشخصي ) إلى جانب هذا الواجب العام , واجباً خاصاً هو الأداء الذي يلتزم المدين به , وهذا الواجب الخاص لا وجود له في الحق العيني .
إن محل الحق العيني هو شيء مادي معين بالذات ؛
في حين أن محل الحق الشخصي هو دوماً أداء معين يتناول القيام بعمل أو الامتناع عن عمل .
وهذا الاختلاف في المحل هو الذي يفسر اختلاف طبيعة الرابطة القانونية الموجودة في كلا الحقين :
فلما كان محل الحق العيني هو شيء , فالرابطة الموجودة فيه هي رابطة تسلط مباشر من شخص على هذا الشيء بحيث يستطيع صاحب الحق أن يباشر حقه دون حاجة إلى وساطة شخص آخر .
ولما كان محل الحق الشخصي عملاً أو امتناعاً عن عمل من جانب المدين , فإن الرابطة الموجودة فيه هي رابطة اقتضاء أداء معين من شخص معين , بحيث لا يستطيع الدائن الوصول إلى حقه إلا عن طريق تدخل هذا الشخص وتنفيذه التزامه .
يترتب على التفرقة بين الحق العيني والحق الشخصي نتائج وآثار هامة نجملها فيما يلي :
1 ـ إن الحق العيني باعتباره سلطة مباشرة على شيء يخول صاحبه حق التتبع , فصاحب الحق العيني يستطيع تتبع الشيء الذي يقع عليه حقه واسترداده من أي يد انتقل إليها , وبذلك يظل هذا الشيء خاضعاً لسلطة صاحب الحق ولو انتقل إلى يد شخص آخر , فإذا سرق الشيء من مالكه , فيظل هذا الشيء خاضعاً لسلطة صاحب حق الملكية أي المالك ويكون له أن يتتبع هذا الشيء , وأن يسترده ممن سرقه .
وحق التتبع ليس مقتصراً على نوع معين من الحقوق العينية , فهو ميزة تلازم كافة الحقوق العينية الأصلية منها والتبعية على حد سواء .
أما الحق الشخصي فلا يخول صاحبه حق التتبع , لأن هذا الحق لا يرد على شيء معين ليمكن القول بتتبعه في أي يد وجد , وإنما يرد على عمل يلتزم به شخص معين و لا يتصور التتبع في شأن عمل من الأعمال .
2 ـ يخول الحق العيني صاحبه كذلك حق الأولوية أو الأفضلية ( حق الرجحان أو حق التقدم ) , وتبرز هذه الميزة بصورة خاصة في الحقوق العينية التبعية , حيث يستأثر صاحب الحق العيني التبعي بسلطته على الشيء , فيكون في مأمن من كل مزاحمة له في ممارسة هذه السلطة .
فالدائن المرتهن , أي الدائن الذي حصل على رهن من مدينه ضماناً للدين , يكون صاحب حق عيني تبعي على المال المرهون , ولهذا تثبت له الأولوية والأفضلية على سائر الدائنين العاديين , فيتقدم ويرجح على هؤلاء الدائنين في استيفاء دينه من المال المرهون لأن له عليه سلطة مباشرة .
أما الحق الشخصي , فلا يرد على شيء معين من أموال المدين , ولذلك يكون الوفاء به مضموناً بما يكون لدى المدين من أموال , فإذا تعدد أصحاب الحقوق الشخصية أي دائنو هذا المدين , فإنهم يتعرضون لخطر التزاحم فيما بينهم , بما يتضمنه من خطر عدم استيفائهم لحقوقهم بشكل كامل إذا لم تكف أموال المدين للوفاء بكل هذه الحقوق .
وعلى هذا , فإن الحقوق العينية التبعية لا تتزاحم مع الحقوق الشخصية , لأن حق الأولوية أو الأفضلية الذي تتميز به يجنبها مثل هذا التزاحم .
3 ـ الحق العيني يرد على شيء مادي موجود ومعين بالذات , فإذا كان الشيء غير موجود في الحال فلا يتصور وجود حق عيني على هذا الشيء , ولا يكفي لقيام الحق العيني وجود الشيء وجوداً حالاً , بل يجب أيضاً أن يكون هذا الشيء معيناً بالذات , أي لا بد من أن يتحدد الشيء تحديداً بعينه ويعزله عن غيره لتيمكن صاحب الحق من مباشرة سلطته عليه .
أما الحق الشخصي فمحله عمل من الأعمال , وبالتالي يمكن أن يكون هذا العمل متعلقاً بشيء مستقبل أو شيء معين بالنوع دون أن يكون معيناً بالذات .
وعلى هذا فعقود البيع التي ترد على أشياء مستقبلية كبيع المحصول قبل ظهوره وبيع المنزل قبل بنائه , لا ينشأ عنها سوى حقوق شخصية يكون محلها عمل المدين وهو إعطاء شيء , حيث يكون حق المشتري قبل وجود الشيء المبيع حقاً شخصياً يستطيع بموجبه إجبار البائع على تنفيذ التزامه بتسليم المبيع , أما الحق العيني فلا يوجد إلا بوجود الشيء المبيع وجوداً محققاً وقيام البائع بتنفيذ التزامه .
وكذلك إذا نشأت علاقة قانونية تتعلق بشيء معين بالنوع فقط , فإن هذه العلاقة لا ينشأ عنها سوى حق شخصي , فإذا باع تاجر كمية من السكر دون أن يتم تعيين السكر المبيع بذاته , فلا يكون للمشتري سوى حق شخصي , ويكون محل هذا الحق عمل يلتزم به البائع , وهو أن يقوم بإفراز الكمية المبيعة وتسليمها إلى المشتري , ولا يصبح المشتري صاحب حق عيني , أي مالكاً , إلا بإفراز الكمية المبيعة , أي بعد أن يتم تعيينها بالذات , لأنه قبل ذلك كانت معينة بالنوع فقط .
4 ـلما كانت الحقوق العينية ترد على أشياء مادية , فإنه يمكن حيازة هذه الأشياء , وبالتالي يمكن اكتساب هذه الحقوق بالتقادم , وعلى هذا يمكن اكتساب حق الملكية مثلاً إذا استمرت حيازة الشيء مدة معينة من الزمن .
أما الحق الشخصي فهو رابطة بين شخصين , فلا يتصور أن ترد عليه الحيازة , لذلك لا يمكن أن يكتسب بالتقادم .
5 ـيتم التنازل عن الحق العيني بإرادة صاحبه دون حاجة إلى موافقة شخص آخر . فيستطيع المالك مثلاً أن يتخلى عن الشيء الذي يملكه بمجرد إرادته , وذلك لأنه ليس بين صاحب الحق العيني وبين شخص آخر رابطة حتى يتم الاتفاق معه على إنهائها .
أما الحق الشخصي فلا يستطيع صاحبه أن يتنازل عنه على الرغم من إرادة المدين . وعلى هذا إذا أراد الدائن صاحب الحق الشخصي أن يتنازل عن الدين وأن يبرأ مدينه , فلا يتم الإبراء إلا إذا وصل إلى علم المدين ويرتد برده .
اكتب تعليق