اختلفت مدارس التفسير بحسب نظرتها لمصادر القانون وأساسه , وقد ظهرت في هذا الصدد ثلاث نظريات هي :
ظهرت هذه المدرسة في مطلع القرن التاسع عشر , وقد كان الباعث على ظهورها صدور عدد من التشريعات الفرنسية بشكل عام , وصدور القانون المدني الفرنسي المعروف بقانون نابليون بشكل خاص , والذي كان يعتبر بين معاصريه بمثابة كتاب مقدس أخرج للناس لتحقيق العدالة بينهم .
وهذا الاعتقاد كان كافياً بحد ذاته لأن ترى المحاكم والفقهاء أنفسهم مجبرين على الاعتماد على نصوص القانون بصورة مطلقة , بحيث كلما طرأت مستجدات بادر أصحاب الاختصاص إلى هذه النصوص لإيجاد الحكم المناسب لهذه المستجدات .
فظهرت بذلك طريقة جديدة في التفسير أطلق عليها طريقة التقيد بالنص , أو الشرح على المتون , لأن أنصار هذه الطريقة كانوا يقومون بشرح نصوص التشريع متناً متناً كما يفعل المفسرون في الكتب المقدسة .
وهم متفقون على أن هذه النصوص التشريعية قد تضمنت كل القواعد القانونية اللازمة , ويكفي الفقيه أو القاضي أن يستعرض هذه النصوص ويفسرها بصورة حرفية ليصل إلى القاعدة القانونية المناسبة , وإذا عجز عن الوصول إلى تلك القاعدة فإنما العيب فيه والتقصير منه باعتباره لم يستطع الوقوف على إرادة المشرع ونيته عند وضع القانون بصورة سليمة .
ومن أبرز أنصار هذه المدرسة ديغور , بارتان , ديمولومب , ملافي , فاليت , كل هؤلاء يتفقون على أن التشريع هو المصدر الوحيد للقانون في خطاب ألقاه الفقيه بلوندووهو من أنصار هذه المدرسةأعلن فيه : " أن التشريع أصبح هو المصدر الوحيد للقانون , وأنه ينبغي التخلص من المصادر الأخرى الكاذبة التي كثيراً ما يراد إحلالها محل إرادة المشرع , وهي السوابق القضائية والعادات غير المنصوص عليها في التشريع والإحساس بالعدالة وفكرة المنفعة العامة والمبادئ القانونية " .
وقد وصل بلوندو إلى حد الإعلان بأنه ينبغي على القاضي أن يرفض كل طلب لا يستند إلى نص صريح في التشريع .
أما الفقيه ديمولومب فقد قال : " إن شعاري وعقيدتي هي النصوص قبل كل شيء " .
و قال بونيه في هذا الإطار أيضاً:" إنني لا أعرف الحقوق المدنية وإنما أدرس قانون نابليون " .
ويتبنى فقيه آخر هو فاليت مثل هذا الرأي , إذ يعتقد أن تشريعات كثيرة صدرت مذ سبعين سنة , وسيكون من المدهش أن نجد حالة لا يوجد لها نص يحكمها .
و تعتمد هذه المدرسة في تفسيرها للنصوص على المبادئ الآتية :
1- التشـريع هو المصدر الوحيد للقانون , وعليه يتحتم على القاضي الأخذ به كما هو , دون تعديل .
2- طالما أن النصوص التشريعية لا يمكن أن تتضمن الجزئيات كافة , فلا مناص من اللجوء إلى تفسيرها , وهنا تنحصر وظيفة المفسر في التعرف على الإرادة الحقيقية للمشرع وقت وضع النص التشريعي لا وقت تطبيقه .
3- إذا لم يستطع أن يتعرف على النية الحقيقية للمشرع عند وضع نصوص التشريع كان عليه أن يفترض هذه النية افتراضاً , لأن نية المشرع سواءً أكانت حقيقية , أم مفترضة , صريحة أو ضمنية , هي التي يتوجب على القاضي أن يتقيد بها عند لجوئه لتفسير النص التشريعي .
وقد سارت المحاكم على هذا المذهب حتى نهاية القرن التاسع عشر لما يحققه من مزايا تلتصق عادة بالقانون المكتوب , ألا وهي ضمان الاستقرار في المعاملات القانونية .
لكن لا يمكن تلافي العديد من الانتقادات التي وجهت إلى مدرسة الشرح على المتون , وخاصة أنها تعتبر التشريع المصدر الوحيد للقانون , مع أنه بات من المسلمات اليوم أن هناك مصادر أخرى للقانون إلى جانب التشريع , هذا من جهة .
ومن جهة أخرى يعاب على هذه المدرسة إسرافها في التمسك بحرفية النص مع ما قد يؤدي إليه ذلك من جمود , فظروف الحياة عرضة للتغيير والتطور بحيث أن كل فترة تظهِر وقائع وحالات جديدة لم يلحظها المشرع عند وضعه للنص التشريعي , وبالتالي لا يمكن أن تترك هذه الوقائع والحالات دون حكم قانوني مناسب .
وفي هذا الإطار فقد وصف الفقيه جيني طريقة المدرسة التقليدية في التفسير بأنها طريقة تعوق تقدم القانون وتقضي عليه بالبقاء حيث هو , مع أنه من المقرر أن القانون علم كسائر العلوم الاجتماعية الأخرى مبناه التطور والتغيير .
ويلاحظ أن معظم طرق المدرسة التقليدية في تفسير التشريع ما زالت متبعة حتى الوقت الحاضر في شرح النصوص التشريعية , ولذلك لا يمكن القول إن مدرسة الشرح على المتون قد انتهى وجودها تماماً , بل هي لا زالت موجودة في بعض جوانبها الصحيحة في تفسير نصوص التشريع .
ظهرت هذه المدرسة في ألمانيا على يد الفقيه سافيني , وهي تقوم على فكرة أساسية مؤداها أن القاعدة القانونية هي نتاج مستمر ومتواصل للجماعة , فكل قاعدة قانونية ليست سوى تعبير مؤقت عن حاجات الوسط الاجتماعي الذي نشأت فيه , وفي ضوء الظروف التي اقتضت وجودها .
ويترتب على هذا أن القاعدة القانونية إذا وضعت فإنها تنفصل عن إرادة المشرع , وبالتالي لا تبقى على اتصال بهذه الإرادةكما تذهب إليه مدرسة الشرح على المتونبل يصبح لها كيانها الخاص المتصل بظروف الحياة الاجتماعية , فقد تستمر القاعدة القانونية على معناها الأصلي فترة طويلة من الزمن , وقد تحمل معانٍ جديدة تختلف عن المعنى الأصلي بحكم ظروف الحياة الاجتماعية , وضرورة تكيف القاعدة القانونية مع هذا التطور .
و وفقاً لهذه النظرية , يستطيع القاضي أن ينظر في تفسيره للنص القانوني إلى المعاني الكامنة في هذا النص المسايرة للتطور , ليتمكن من تطوير القاعدة القانونية دون حاجة إلى التعديل المستمر للنص القانوني .
وعليه فإن النصوص القانونية لا تفسـر وفقاً لإرادة المشرع الحقيقية أو المفترضة يوم وضعها , بل على المفسر أن يبحث عن الإرادة الاحتمالية للمشرع أي تلك التي كان يتجه إليها لو أنه دعي إلى التشريع في الظروف نفسها التي يطبق فيها النص .
يلاحظ أن هذا الرأي إذا كان هو الرأي السائد في ألمانيا , فإنه لم يجد في فرنسا إلا أنصاراً قليلين , لعل أبرزهم الفقيه الفرنسي سالي حيث يقول : " من القانون المدني إلى ما وراء القانون المدني " .
فقد اعتبر سالي أن المدرسـة التقليدية بعيدة كل البعد عن الحقيقة و وصفها بأنها مجرد تحايل , وأكد على أن فكرة العدالة بدورها تخضع للتطور فلا مناص من إيجاد حلول جديدة تتفق وهذه التطورات الجديدة من وجهتها الاقتصادية والاجتماعية .
و يقترح سالي استبعاد المدرسة التقليدية واتباع طريقة جديدة في تفسير القوانين , أساسها أن النصوص بمجرد صدورها تسير مع الوقائع جنباً إلى جنب , فتخضع معها لقانون التطور والتغيير , فإذا ما أريد تفسيرها فلا يرجع إلى إرادة المشرع , أي إتباع طريقة شخصية , بل على عكس ذلك لا بد من تحقيق العدالة في ذاتها وإتباع طريقة موضوعية تفسر النصوص وفقاً لما تمليه مراعاة مقتضيات الحال من حيث الزمان والمكان .
إذاً : طريقة سالي تقوم على إهمال غرض الشارع حتى ولو كان صريحاً , حيث ترى أن القانون بعد صدوره لا يبقى ملكاً للمشرع بل ملك للجماعة التي ينظم أحوالها .
وعليه استطاعت المدرسة التاريخية تلافي عيب المدرسة التقليدية بجعل النصوص أكثر مرونة وتطوراً وتلاؤماً مع ضرورات المجتمع وحاجاته بعد أن كانت تتصف بالجمود والركود .
لكن النقد الأساسي الذي يوجه إلى هذه النظرية أنها قضت بصورة كاملة على كل مزايا القانون المكتوب , ولا سيما عندما اعتبرت أن النصوص القانونية تعد بمجرد صدورها نصوصاً منفصلة عن إرادة المشرع , ولا تتبع إلا تطور ظروف المجتمع وحاجاته .
كما أن هذه النظرة ستؤدي إلى الخروج بالتفسير عن وظيفته , وتفتح المجال أمام تحكم القضاء , إذ يستطيع القاضي تحت ستار التفسير اللجوء إلى تعديل أو إلغاء العديد من النصوص القانونية , وبالتالي سيقضي على ما يجب أن يتوافر للقانون من صفات الثبات والاستقرار , وسيخلق جواً من الاضطراب في المعاملات القانونية بين الأفراد , بالإضافة إلى الإخلال بمبدأ فصل السلطات .
كما أن ربط عملية التفسير بحاجات الجماعة في وقت معين , يؤدي إلى اختلاف التفسيرات للنص الواحد الذي يؤدي إلى التناقض والتباين في الأحكام للحالات المتماثلة .
تحاول هذه المدرسة أن توفق بين الأسس التي تقوم عليها كل من المدرسة التقليدية والمدرسة التاريخية , بالاستناد إلى مبادئ البحث العلمي الحر , ويعتبر الفقيه الفرنسي فرانسوا جيني المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة .
ومن أهم المبادئ التي تقوم عليها هذه المدرسة : اتباع المشرع في الأحوال التي تظهر فيها إرادته واضحة جلية .
و مؤدى ذلك أنه على القاضي أن يتمسك أولاً بالنصوص وأن يفسرها وفقاً لإرادة المشرع الحقيقية وقت وضعها .
وهذا المبدأ يتفق مع ما ذهبت إليه المدرسة التقليدية , فإذا لم يؤدي تفسير القاضي للنص على هذا الأساس إلى تطبيق القاعدة القانونية على النزاع المعروض , فإن على القاضي المفسر لكي يصل إلى الحل المناسب إن يبحث عنه في مصادر القانون الأخرى , وهنا يختلف جيني مع المدرسة التقليدية التي ترى ضرورة البحث عن الإرادة المفترضة للمشرع .
أما في الأحوال الأخرى عندما لا يجد القاضي قاعدة قانونية يمكن تطبيقها على النزاع المعروض أمامه في أي مصدر من مصادر القانون المختلفة , فإن على القاضي المفسر أن يبتع ما أسماه جيني : " البحث العلمي الحر " , ويقصد به رجوع القاضي إلى جوهر التشريع بحقائقه المتعددة الطبيعية أو الواقعية والحقائق التاريخية والعقلية والمثالية في كل مسألة جديدة , وبالتالي يمكن الوصول إلى تحقيق العدالة بالارتكاز إلى أسس و وسائل علمية لا وسائل افتراضية .
ويعود للفقيه جيني الفضل الأكبر في تحطيم القيود الشكلية البحتة التي رسمتها المدرسة التقليدية , ولا سيما أن هناك من أيد هذا المبدأ من منطلق أن القانون لا يمكن أن يكون منطقياً بحتاً , لأن حياة الجماعة ليسـت بســيطة ومنطقية , بل على العكـس هي مركبة مليئة بالمتناقضات .
ويعتبر فقه هذه المدرسة هو الفقه السائد حالياً لما يتميز به من منطق سليم .
لكن يؤخذ على هذه المدرسة , ما سبق وذكرناه بصدد المدرسة التاريخية , من أنها تؤدي أيضاً للقضاء على مزايا النص المكتوب , ولا سيما عند عدم وجود قاعدة قانونية في أحد مصادر القانون واللجوء إلى طريقة البحث العلمي الحر , إذ في هذه الحالة تمنح القاضي سلطات واسعة في انتقاء الحلول من خلال تقدير العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمثالية التي تحيط بكل مسألة على حدة .
خلاصة القول , تتجلى في اعتقادنا أن الوسائل السليمة التي يتوجب على القاضي المفسر اعتمادها يجب أن تجمع بين مجموع الأسس التي تقوم عليها هذه النظريات , إذ لا يستطيع أحد أن ينكر أن إرادة المشرع إنما تعتبر أصدق تعبير عن ضمير الجماعة وقت صدورها , لكن بنفس الوقت نقر بأن فكرة العدالة ليست فكرة جامدة بل تتغير بتغير الظروف التي تحيط بالمجتمعات .
فإذا كان الثبات والاستقرار في المعاملات القانونية ضرورياً لحسن سير الأعمال فهذا لا ينفي أن يتغير القانون بالقدر الذي يجعله متوافقاً مع الوسط الذي يعيش فيه .
وإذا أردنا تلمس الاتجاهات التفسيرية في القانون السوري فلا بد من استعراض الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون المدني التي تنص على أنه : " تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها " .
ومما لا شك فيه أن نص الفقرة الأولى من المادة الأولى يعكس بجلاء تأثر القانون المدني السـوري بفقه المدرسة التقليدية , إذ يلتزم القاضي بضرورة تفسير النص التشريعي تفسيراً لفظياً .
وقد تأكد هذا التأثر من خلال المادة الأولى نفسها حيث جعلت من التشريع المصدر الرسمي الأصلي الوحيد للقاعدة القانونية .
أما الفقرة الثانية من المادة الأولى فتعكس تأثر القانون المدني السوري بفقه المدرسة العلمية ومخالفته لفقه المدرسة التقليدية إذ تنص هذه الفقرة عل أنه :
" إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه , حكم القاضي بمقتضى الشريعة الإسلامية , فإذا لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة " .
يلاحظ من خلال هذه الفقرة أن المشرع لم يجعل من التشريع المصدر الرسمي الوحيد , إذ يوجد إلى جانبه مصادر رسمية أخرى يتعين الرجوع إليها عند غياب الحكم في التشريع , فلا يجوز البحث عن الإرادة المفترضة للمشرع .
ويظهر تأثر المشرع السوري بفقه المدرسة التقليدية والمدرسة العلمية من خلال بعض النصوص التشريعية , ومثالها ما جاء في المادة 151 من القانون المدني السوري إذ تنص في فقرتها الأولى على أنه :
" إذا كانت عبارة العقد واضحة , فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين " .
وهنا يظهر التأثر بفقه المدرسة التقليدية التي تتضمن ضرورة الالتزام بحكم العبارة الواضحة الصريحة وعدم جواز الخروج عنها تحت أي ستار .
أما الفقرة الثانية من المادة نفسها فتنص على أنه :
" إذا كان هناك محل لتفسير العقد فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ , مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل و بما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين , وفقاً للعرف الجاري في المعاملات " .
وهنا يكمن التأثر بفقه المدرسة العلمية من خلال النص على ضرورة عدم الوقوف عند حرفية النصوص , وإنما يجب التحري عن إرادة واضعها إذا كان هناك محل للتفسير مع مراعاة مصلحة الجماعة وضرورات التعامل والضرورات الاجتماعية .
اكتب تعليق