يقصد بالشريعة الإسلامية في بحثنا هذا ليس الدين الإسلامي كله , و إنما المعاملات فيه إذ منذ العصر الإسلامي الأول عمل الفقهاء على الفصل بين العبادات و المعاملات , أو بين ما سموه حق الله و حق العباد .
و شملت المعاملات في الشـريعة الإسلامية نواح قانونية كثيرة منها ما يتعلق بالقانون الجنائي , و منها ما يتعلق بالقانون الدستوري و نظم الحكم , و منها ما يتعلق بالقانون الدولي العام و أحكام الحرب السلم , و منها ما يتعلق بالمواد المدنية .
لذلك تحتل مبادىء الشريعة الإسلامية مكانة هامة في تكوين العديد من القواعد القانونية .
يعرف الدين بشكل عام بأنه " مجموعة المعتقدات و القواعد المستمدة من وحي قوة عليا منظورة "
و عليه يشمل هذا التعريف الأديان كافةسواء أكانت ديانات سماوية منزلة كاليهودية و المسيحية و الإسلامية , أم ديانات غير سماوية كالديانة البوذية .
و قواعد الدين تبين واجب الإنسان نحو ربه و واجبه نحو نفسه , و واجبه نحو غيره .
و يقتصر أثر الدين في القانون على ما يتعلق بواجب الإنسان نحو غيره منالناس , و هو الذي يمثل الروابطالاجتماعية التي تربطالإنسان ببقية أفرادالمجتمع .
و قواعد الدين لا تعتبر مصدراً رسمياً للقانون إلا إذا كانت تلك القواعد تتضمن تنظيماً للروابط الاجتماعية , وبشـرط أن يكون ما جاء به الدين من قواعد في هذا الصدد واجبة الاحترام , بحيث يترتب على الخروج عليها توقيع جزاء من جانب السلطة العامة .
ففي هذه الحالة تعد القواعد الدينية قواعد قانونية يلتزم الأفراد بحكمها , و يطبقها القاضي للفصل فيما يعرض عليه من نزاعات .
و يترتب على ذلك أن قواعد الدين إذا كانت لا تنظم مطلقاً واجب الإنسان نحو غيره لا يمكن أن يكون لها أثر كمصدر رسمي للقانون .
و قواعد الدين التي تنظم علاقات الفرد مع غيره , لا تعتبر قواعد قانونية ملزمة , إلا إذا تدخلت الدولة و شملتها بسلطانها و أحاطتها بجزاء يوقع على من يخالفها , و القاضي في تطبيقه لهذه القواعد المستمدة مباشرة من الدين , لا يطبقها لكونها قواعد دينية , بل على اعتبار أنها قواعد قانونية مصدرها الرسمي الدين .
و من المعروف أن المنطقة التي يطلق عليها اليوم الوطن العربي شهدت أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية , و بالتالي ظهرت فيها أقدم الشرائع القانونية , مثل شريعة مصر , و شريعة بابل , كما نزلت فيها الشرائع السماوية الثلاث : اليهودية و المسيحية و الإسلامية .
فالشريعة اليهودية : شريعة سماوية مثلها في ذلك مثل الشريعة الإسلامية , و لذلك فإن القانون اليهودي ليس قانوناً يستوحى من الآلهة و تصاغ أحكامه و نصوصه من جانب البشر , كما كان عليه الأمر في شريعة بابل أو القانون الفرعوني , بل تنزيل – لفظاً و معنى - من لدن الرب . و لذلك اتسم القانون اليهودي بالطابع الديني , حيث اختلطت أحكام القانون و الدين معاً , سواء من حيث مصدرها , او من حيث الجزاء .
و تكمن أهمية شريعة اليهود في كونها تشكل مصدراً تاريخياً لبعض القواعد القانونية التي ظهرت في القانون الكنسي و قانون أوربا في العصور الوسطى , مثال ذلك دور اليمين في التصرفات القانونية , موانع الزواج , تحريم القرض بفائدة , و قد تأثرت القوانين الحديثة ببعض النظم القانونية التي سادت أوربا الوسطى .
أما الشريعة المسيحية فلم تحاول في نشأتها أن تعنى بتنظيم العلاقات الاجتماعية أو إيجاد نظام قانوني يحكم هذه العلاقات و ينظمها في المجتمع , وربما كان هذا الأمر يرجع إلى البيئة التي نشا فيها الدين المسيحي , إذ نشا و ترعرع في بيئة تسود فيها الشريعة اليهودية التي تعرضت و بشكل مفصل لكليات و جزئيات الحياة الدنيوية .
و من جهة أخرى فإن الدين المسيحي بالرغم من أنه ظهر في الشرق إلا أنه انتشر في الغرب انتشاراً واسعاً و في بلدان كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية التي شهدت مراحل متقدمة من تقنين القواعد القانونية و شمولها لشتى العلاقات القائمة بين الأفراد داخل المجتمع الروماني نفسه أو مع الشعوب الخاضعة للسيطرة الرومانية , لذلك دأب السيد المسيح في رسالته على نشر و إعلاء شأن الروحانيات على الماديات , و شأن الآخرة على الدنيا .
إلا أن الكنيسة بعد أن اشتد نفوذها و قوي سلطانها عمدت إلى تولي تنظيم الكثير من العلاقات بشكل يغنيها و يغني أتباعها عن اللجوء إلى سلطات الدولة , و لاسيما قبل اعتناق أباطرة الرومان للدين المسحي .
و من هنا نشأت في البلدان المسيحية قواعد قانونية دينية هي من وضع رجال الكنيسة , حيث حرص هؤلاء عند وضعهم لهذهالقواعد على مراعاة المبادئ الأخلاقية و المثل العليا التي تضمنتها تعاليم السيد المسيح.
و هكذا نشأت قواعد تحت اصطلاح القانون الكنسي , و لعل من أهم المبادئ القانونية التي أتى بها القانون الكنسي مثلاً : وجوب التعادل بين الالتزامات التي ينشئها العقد في ذمة المتعاقدين , كما أنهم حرموا الغبن , و أجازوا تعديل العقود بتغير الظروف , و استمر القانون الكنسي بالازدهار في تلك البلدان إلى أن أخذ نفوذه يتضاءل شيئاً فشيئاً تبعاً لانفصال الدين عن الدولة , لكنه بالرغم من ذلك يعتبر هذا القانون أحد المصادر التاريخية بالنسبة للعديد من القوانين الغربية الحديثة , و من بينها القانون الفرنسي .
و إذا كانت تلك هي حقيقة القواعد القانونية في نطاق الديانة المسيحية , فإن الأمر يختلف اختلافاً جذرياً في نطاق الشريعة الإسلامية , فالإسلام لم يقتصر على دعوة الناس إلى عبادة الله و طاعته , بل جاء بنظام شـامل لجميع شؤون الحياة , إذ بين واجب الإنسان نحو ربه , و واجبه نحو نفسه , و واجبه نحو غيره , و لذلك قسمت أحكام الشريعة الإسلامية إلى ثلاث مجموعات :
المجموعة الأولى : الأحكام المتعلقة بالعقيدة كالإيمان بالله و اليوم الآخر .
المجموعة الثانية : الأحكام المتعلقة بالأخلاقكوجوب الصدق و الأمانة .
المجموعة الثالثة : الأحكام العملية ( الفقه ) : و تنقسم إلى قسمين رئيسيين :
أ- العبادات : كالصلاة و الصوم , أي تنظيم علاقة الفرد بربه .
ب- المعاملات : أي تنظيم علاقة الأفراد فيما بينهم , و هذه تشمل روابط القانون العام و الخاص في الاصطلاح الحديث .
تعتبر مبادئ الشريعة الإسلامية مصدراً رسمياً احتياطاً للقانون المدني السوري , فقد نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى على أنه :
" إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه ، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية ... " .
و ما يجدر ذكره هنا أن هذه الإحالة الواردة في المادة السابقة هي على المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية , و هي ليست محل خلاف بين الفقهاء , و ليس على الحلول التفصيلية التي قد تتعدد و تتشعب بصددها الآراء بين الفقهاء .
أما سبب كون المشرع قد أوجب الرجوع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية قبل مبادئ القانون الطبيعي و قواعد العدالة ، ذلك لأنه ارتأى في مبادئ الشريعة الإسلامية مبادئ ترتكز على أسس ثابتة مسلم بها .
و لتحديد أثر مبادئ الشريعة الإسلامية في القانون السـوري لا بد من التفريق بين أمرين اثنين ,و هما : أثره في مسائل الأحوال الشخصية , و في الأمور المدنية .
تخضع هذه المسائل لقانون الأحوال الشخصية السورية الصادر عام 1953 .
و هذا التشريع مأخوذ بكامله من الشريعة الإسلامية يخضع له المسلمون وغير المسلمين باستثناء المواضيع المعددة في المادة 308 منه ، حيث يخضع فيها غير المسلمين إلى أحكام تشريعاتهم الدينية الخاصة بطوائفهم , و هي :
الخطبة و شروط الزواج وعقده و المتابعة و انفكاك رباطه و البائنة و الحضانة .
كما استثنيت الطوائف الكاثولكية من الخضوع لقانون الأحوال الشخصية السابق , حيث خضعت لأحكام قانون خاص بها في مسائل الأحوال الشخصية , و هو القانون رقم 31 تاريخ 18 / 6 / 2006 .
أما في بقية الأمور , كالنسب و الأهلية و النيابة الشرعية و الوصية و الإرث , فيخضع المسلمون وغير المسلمين إلى أحكام واحدة ، هي أحكام الشريعة الإسلامية الواردة في قانون الأحوال الشخصية .
تعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الرسمي الثاني للقواعد القانونية ، حيث يتوجب على القاضي أن يلجأ إلى أحكامها عندما لا يجد نصاً في التشريع يمكن تطبيقه على النزاع أو الحالة المعروضة أمامه , و ذلك بالنسبة لجميع المسلمين و غير المسلمين على السواء . و لا يعني ذلك مساساً بمنزلة الشريعة الإسلامية أو تفضيلاً للتشريع عليها .
و يظهر أثر الشريعة الإسلامية جلياً في الدستور السوري لعام 1973 , إذ راعى هذا الدستور كون الغالبية من العرب المسلمين , و أن الإسلام يلعب دوراً بارزاً في حياتنا العامة و الخاصة حاضراً و مستقبلاً , لذلك جاءت المادة الثالثة منه لتنص على أن : دين رئيس الجمهورية الإسلام , و الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع .
و بالإضافة إلى كون مبادئ الشريعة الإسلامية تحتل المرتبة الثانية بين المصادر الرسمية للقانون ، فقد تبنى المشرع العديد من الأحكام في الشريعة الإسلامية وقننها في نصوص تشريعية يرجع في تفسيرها إلى أحكام الشريعة الإسلامية المأخوذة منها .
لتوضيح ذلك نورد الأمثلة التالية :
1 ـ نظرية التعسف في استعمال الحق المنصوص عليها في المادة السادسة من القانون المدني السوري : و هي نظرية وضعتها الشريعة الإسلامية منذ ألف و أربعمائة عام , لم يعرفها القانون الروماني و لا القوانين المستمدة منه ، و لم يكتشفها الفقهاء الفرنسيون إلا في أواخر القرن التاسع عشر .
2 ـ أحكام التصرفات التي يجريها الشخص المريض مرض الموت الواردة في المادة / 877 / من القانون المدني السوري .
3 ـ خيار الرؤية في البيع الوارد في المادة 387 من القانون المدني السوري : فهو مأخوذ من الشريعة الإسلامية .
4 ـ نظرية الظروف الطارئة الواردة في الفقرة الثانية من المادة / 148 / , حيث يجوز للقاضي تبعاً للظروف و بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين ، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول : فهذهالنظرية مستمدة من الشريعة الإسلامية التي أسندتها إلى نظرية الضرورة .
وقد قال الأستاذ إدوار لامبير في مؤتمر القانون المقارن المنعقد في لاهاي سنة 1963 عن هذه النظرية ما يلي : " تعبر نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي ، في جزم و شمول عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام , وهي فكرة الضرورة التي تجيز تغيير الاتفاقيات الدولية إذا تغيرت الظروف " .
5 ـ وجوب سداد ديون المورث من أموال التركة قبل توزيعها على الورثة .
6 ـ أغلب الأحكام المتعلقة بالأهلية .
7 ـ مسؤولية عديم التمييز عن أعماله الضارة إذا لم يوجد من هو مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول عنه : فهذا حكم سبقت إليه الشريعة الإسلامية عملاً بنظرية تحمل التبعة , حيث وضعت مبدأ الغرم بالغنم . و لم يعرف القانون الفرنسي هذا الحكم و لم يتقرر في التشريع الفرنسي إلا في سنة 1968 .
8 ـ التزامات الجوار , و منها أحكام الحائط المشترك : فهي أحكام مستمدة من الشريعة الإسلامية .
هذه مجموعة من الأحكام التي استمدها القانون المدني السوري من مبادئ الشريعة الإسلامية و غيرها كثير , مما يدلل على صلاحيتها لكل زمان و مكان .
اكتب تعليق