تختلف الأنظمة القانونية في نظرتها إلى القانون الأجنبي ، فبعضها ينظر إليه بوصفه قانوناً و تعامله على هذا الأسـاس ، بينما تنظر إليه أنظمة أخرى على أنه مجرد واقعة وتعامله وفقاً لذلك .
فقد اتجه القضاء الفرنسي إلى عدم إلزام القاضي بالبحث عن أحكام القانون الأجنبي واجب التطبيق من تلقاء نفسه , و ألقى بعبء البحث عنه على عاتق أطراف النزاع .
فالقاضي الوطني لا يطبق القانون الأجنبي ابتداءً ، بل لا بد أن يطلب الخصوم ذلك .
و بطلبهم هذا يتحملون عبء بيان أحكام ذلك القانــون , و ذلك في أية مرحلة كانت عليها الدعوى ، عدا مرحلة النقض ، حيث لا يجوز التمسك أمام محكمة النقض بتطبيق قانون أجنبي ، لتعلق ذلك بوسيلة دفاع جديدة يمتزج فيها الواقع بالقانون .
و لكن أي الخصوم يتحمل بذلك العبء ؟ .
ذهبت بعض أحكام القضاء الفرنسي إلى إلقاء عبء بيان أحكام القانون الأجنبي على عاتق الخصم المدعي بحق نشأ في الخارج ، أي الحق المدعى به .
و ذهب بعضهم الآخر إلى إلقائه على عاتق الخصم الذي يدعي اختلاف أحكام القانون الأجنبي عن أحكام قانون القاضي .
إلا أن الغالب هو إلقاء العبء المذكور على عاتق الخصم الذي يدّعي أن حقه أو مركزه القانوني ثابت وفقاً للقانون الأجنبي ، يستوي في ذلك أن يكون هو المدعي أو المدعى عليه في الدعوى .
و هذا ما كان يسير عليه القضاء الفرنسي قبل تطوره , و هو ما كان يلقى رواجاً في القانون الإنكليزي و الأمريكي و الكندي و الأسترالي . و هو ما نص عليه القانون الدولي الخاص الإسباني لعام 1974 في المادة 12 / 6 التي تقرر أن الشخص الذي يستند إلى قانون أجنبي يلتزم بالكشف عن مضمونه و بأنه ما زال ساري المفعول , و إذا ما أخفق الخصم في ذلك فإن القاضي يطبق قانونه الوطني .
و هذا الاتجاه يستند إلى حجج عدة : قانونية و إجرائية و عملية و فنية .
و قد بدأت محكمة النقض الفرنسية منذ حكمها بتاريخ 2 / 3 / 1960 ، تتجه إلى أنه إذا كان عبء البحث عن أحكام القانون الأجنبي يقع أساساً على عاتق الخصوم ، فإنه لا تثريب على القاضي إن هو لجأ إلى الكشف عن أحكام القانون الأجنبي و تحريها من تلقاء نفسه , حتى و لو لم يتمسك الخصوم بإعمال تلك الأحكام .
ولكن قيام القاضي بعملية البحث هو رخصة ، و ليس التزاماً عليه .
و مقتضى ذلك أنه لا يستطاع النعي على قضاة الموضوع تقاعسهم في هذا السبيل , و هذا ما رددته الأحكام اللاحقة .
إلا أنه مع التطور الحديث للقضاء الفرنسي بخصوص إلزام القاضي بتطبيق قاعدة الإسناد من تلقاء نفسه ، يمكن القول إن المقتضى الطبيعي لذلك القضاء هو إلزام القاضي بالبحث عن أحكام القانون الأجنبي من تلقاء نفسه ، ذلك أن لقاعدة الإسناد وظيفة تنظيمية لا تكتمل إلا إذا أكمل القاضي مشواره إلى نهايته و بحث عن القانون الأجنبي الذي تحدده تلك القاعدة . فهذا البحث هو من التوابع الضرورية للالتزام بتطبيق قاعدة الإسناد .
و يدعم الفقه الفرنسي هذا التحليل في ظل موقف محكمة النقض المعاصر .
و في إنكلترا ظهرت أيضاً بوادر التخفيف من غلواء الاتجاه الذي يُعد القانون الأجنبي مجرد واقعة يقع عبء إثباتها على عاتق الخصوم :
فقد صدر في عام 1925 القانون الخاص بالمحكمة العليا الإنكليزية الذي أخرج من نطاق سلطات المحلفين مسائل البحث عن أحكام القانون الأجنبي و تقدير قوة أدلة إثباته ، كي تدخل في مجال سلطات القاضي وحده .
و من المسـتقر أن المحلفين يختصون بالوقائع , بينما يختص القاضي بالفصل في المسائل القانونية .
هذا , و قد ذهبت أحكام القضاء إلى أنه لا تثريب على القاضي إن قضى بعلمه متى كان مضمون القانون الأجنبي معروفاً بطريقة شائعة .
و خلافاً للوضع في فرنسا و الدول الأنكلوسكسونية اتجهت التقنينات الحديثة للقانون الدولي الخاص إلى النص صراحةً على التزام القاضي الوطني بالبحث من تلقاء نفسه عن أحكام القانون الأجنبي و هجر فكرة الترخيص للقاضي في هذا الشأن .
تأكيد التزام القاضي : إن الاتجاه الذي يلقي بعبء بيان أحكام القانون الأجنبي على عاتق الخصوم و يحرر القاضي منه لا يبدو مقبولاً .
والقول السليم هو القول بالتزام القاضي بالبحث عن أحكام القانون الأجنبي من تلقاء نفسه , و عدم جواز تنصله من ذلك , إلا إذا استحال عملاً الوصول إلى تبيان مضمون القانون الأجنبي واجب التطبيق , و أثبت ذلك في حكمه و أوضحه بتسبيب كافٍ .
فإعفاء القاضي من ذلك الالتزام و إلقائه على عاتق الخصوم يتنافى مع الطابع الملزم لقاعدة الإسناد ، لأنه لا معنى أن نقرر أنه ملتزم بإعمالها ، ثم نحرره من الالتزام بإعمال القانون الأجنبي الذي تختاره و البحث عـن مضمونه ، ففي ذلك تقصير مـن القاضي فـي النهوض بوظيفته القضائية.
ولا يجوز أن يقف حد هذا الإلزام على حالة تمسك أطراف النزاع بإعمال قاعدة الإسناد و تطبيق قانون أجنبي ، فحتى ولو لم يتمسك الخصوم بذلك قصداً أو إهمالاً ، بل حتى و لو اتفقوا على إخضاع النزاع لقانــون القاضي ، فلا يجـوز للقاضي أن يظل سـاكتاً و يترك الأمر للمتقاضين ، لأنهم قد يتحايلون عن سوء نية بادعائهم عدم معرفتهم بأحكام القانون الأجنبي لتفادي تطبيقها إن كانت في غير صالحهم .
وهذا ما يستفاد من الموقف الحديث لمحكمة النقض الفرنسية الذي جسدته أحكام 1988 و 1992 .
على أن تأكيد التزام القاضي بالبحث عن أحكام القانون الأجنبي من تلقاء نفسه لا يعني تجنيب الخصوم كل دور في هذا الخصوص ، فلا مانع ، بل قد يكون من الملائم ، استعانة القاضي بهؤلاء إذا كان من بينهم من يسمح له مركزه بتقديم معلومات أو وثائق مفيدة في الكشف عن أحكام القانون الأجنبي .
بل إن للقاضي أن يطلب تلك المساعدة حتى في حالة معرفته لتلك الأحكام من تلقاء نفسه ، لأنه قد يكون لدى الخصوم ما يثبت عكس ما يعرفه و يتفق مع صحيح النظام القانوني الأجنبي ، كل ذلك تحت رقابته و إشرافه .
و قد نصت صراحةً على التعاون بين القاضي و الخصوم ، مجموعة القانون الدولي الخاص التركي لعام 1982 و اليوغسلافي لعام 1983 و السويسري لعام 1987.
كما يتفق الفقه حول ضرورة التعاون بين كل من القاضي و الخصوم وصولاً إلى معرفة أحكام القانون الأجنبي واجب التطبيق ، و هو تعاون يبدو في خصوص كيفية بيان تلك الأحكام و الكشف عنها .
و هناك أنظمة قانونية أخرى تتأثر تشريعاتها و محاكمها بالاتجاه الذي ينظر إلى القانون الأجنبي على أنه مسألة قانون. ففي ألمانيا قضى قانون المرافعات بأن القواعد القانونية و العرفية في بلد آخر لا تحتاج إلى إثبات من قبل المحكمة.
إذ يستفاد من هذا النص أن القاضي الألماني ملزم بالبحث عن القانون الأجنبي. و في الاتحاد السوفييتي نص قانون المرافعات بأن القاضي ملزم بتطبيق القانون الأجنبي من تلقاء نفسه، و مفترضاً ضرورة علمه به.
و في المغرب نص على أنه من جملة أسباب النقض خرق قانون أجنبي خاص بالأحوال الشخصية، أما بالنسبة للقوانين الأخرى فالأمر متروك لتقدير القضاء.
اكتب تعليق